أصحاب جد كوم
تعال إلي عالمنا...إن كنت مسجلا يمكنك الدخول من هنا ,,او التسجيل إن كنت غير مسجل

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

أصحاب جد كوم
تعال إلي عالمنا...إن كنت مسجلا يمكنك الدخول من هنا ,,او التسجيل إن كنت غير مسجل
أصحاب جد كوم
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
المواضيع الأخيرة
» ملتقي الاصحاب
كلام ساكت- أيام نميري I_icon_minitimeالأحد فبراير 01, 2015 9:13 am من طرف عواد عمر

» الفنان رمضان حسن
كلام ساكت- أيام نميري I_icon_minitimeالأحد مارس 09, 2014 11:33 am من طرف عواد عمر

» مذكرات بيل كلينتون
كلام ساكت- أيام نميري I_icon_minitimeالخميس أكتوبر 17, 2013 9:42 pm من طرف الميزر

» صور اعجبتني
كلام ساكت- أيام نميري I_icon_minitimeالسبت يونيو 15, 2013 6:10 am من طرف فاطمة

» نكات اسحابي
كلام ساكت- أيام نميري I_icon_minitimeالإثنين يونيو 03, 2013 1:34 am من طرف محمد الساهر

» أخطر 3 شهادات عن هروب مرسى من السجن
كلام ساكت- أيام نميري I_icon_minitimeالخميس مايو 30, 2013 10:42 pm من طرف عازة

»  من روائع الشاعر جمال بخيت
كلام ساكت- أيام نميري I_icon_minitimeالخميس مايو 30, 2013 10:18 pm من طرف عازة

» إطلاق نــار على الفريق "سـامي عنان
كلام ساكت- أيام نميري I_icon_minitimeالخميس مايو 02, 2013 9:00 am من طرف محمد الساهر

» عاجل..أبو تريكة فى العناية المركزة
كلام ساكت- أيام نميري I_icon_minitimeالخميس مايو 02, 2013 8:33 am من طرف محمد الساهر

»  وقفة مع البافاري : مشروع أفضل فريق يقطع الكرات
كلام ساكت- أيام نميري I_icon_minitimeالخميس مايو 02, 2013 8:21 am من طرف محمد الساهر

»  10 أطعمة تعرضك للإصابة بمرض السرطان
كلام ساكت- أيام نميري I_icon_minitimeالخميس مايو 02, 2013 5:18 am من طرف محمد الساهر

» أسهل وأحدث 10 طرق لإنقاص وزنك في أقل من 10 دقائق
كلام ساكت- أيام نميري I_icon_minitimeالخميس مايو 02, 2013 1:39 am من طرف عازة

» القدرات النفسيه
كلام ساكت- أيام نميري I_icon_minitimeالخميس مايو 02, 2013 1:11 am من طرف محمد الساهر

» تنمية قدرات العقل
كلام ساكت- أيام نميري I_icon_minitimeالخميس مايو 02, 2013 1:08 am من طرف محمد الساهر

» مصر: تطبيق الحد الأقصى والأدنى للأجور في مايو
كلام ساكت- أيام نميري I_icon_minitimeالخميس مايو 02, 2013 12:58 am من طرف محمد الساهر

» السجن مدى الحياة لـ"بن على" و10 لوزير داخليته
كلام ساكت- أيام نميري I_icon_minitimeالخميس مايو 02, 2013 12:38 am من طرف سيدورف

» فتح النار على باسم يوسف لاستضافته مغنيا شاذا
كلام ساكت- أيام نميري I_icon_minitimeالخميس مايو 02, 2013 12:32 am من طرف سيدورف

» مورينيو والريال.. قصة موت معلن؟
كلام ساكت- أيام نميري I_icon_minitimeالخميس مايو 02, 2013 12:16 am من طرف سيدورف

» رئيس برشلونة يعترف بتفوق بايرن.. وفخور بلاعبيه
كلام ساكت- أيام نميري I_icon_minitimeالخميس مايو 02, 2013 12:12 am من طرف سيدورف

» فساتين الزفاف
كلام ساكت- أيام نميري I_icon_minitimeالثلاثاء أبريل 30, 2013 3:22 am من طرف عازة


كلام ساكت- أيام نميري

اذهب الى الأسفل

كلام ساكت- أيام نميري Empty كلام ساكت- أيام نميري

مُساهمة من طرف ميرغني ابراهيم الأربعاء مايو 05, 2010 6:32 pm

نشرت صحيفة الوطن .. هذه المجموعة من الكتابات للواء معاش / محي الدين محمد علي ... أحببت أن أنقلها كما نشرت في حلقات

منقول عن الوطن


لواء «م»/ محي الدين محمد علي

مقال

يسر«الوطن» أن تسترد ولو بصورة متقطعة قلم الكاتب الخفيف الظل .. والثقيل الوزن .. اللواء «م» محيى الدين محمد علي صاحب كتاب الغناء في بيت البكاء .. وغيره من الإبداعات ذات العمق الإجتماعي والإنساني .
وتكريماً وتعظيماً للكاتب نفسح له اليوم الصفحة الأخيرة من عدد السبت متمنين أن يكون اللقاء معه كل سبت بإذن الله .



عــذراء الجــبل



لواء «م» محيى الدين محمد علي

سمعت بحسنها وجمالها .. فسعيت إليها وجئتها على غير موعد .. فوجدتها تغمس قديمها في مياه وادي أزووم وتستحم بحبات المطر .. وتسعد بها كالعصافير وتستلقي بجسدها المترف على سفح جبل مرة الشامخ الرقيق والذي ينفجر الماء عيوناً من قبله .. فدنوت منها قاب قوسين أو أدنى .. وكانت سارحة في الوديان مع الغزلان .. وهي في استرخاء العذارى .. سافرة المحاسن .. تتسلى في وحدتها .. بقزقزة اللب .. وابوقوي .. وتذوق فول الحاجات واستحلاب القونقليز واللالوب تقرم من التفاح .. والبرتكان أبو صرة .. ولم تشعر بوجودي أو تحس بي وأنا أتأملها مبهوراً بالنظرة الأولى التي لا يرتد فيها الطرف .. وكانت والصلاة على النبي - كاعباً حسناء فوراوية الثغر والإبتسام - زغاوية وسودانية الحشا .. والقوام .. اللمي والإشداق حلوة وتعيشية الخدود والطلعة .. سلامية الجيد والإلتفات معلاوية الرموش والنظرات .. هلباوية الجبين والضفاير .. منصورية الأعطاف والتثني .. حسيناوية الحسن والصفات .. فلاتية الملمس والرقة .. برقداوية الكف والأنامل .. داجاوية السيقان والخطي .. هبانية الذوق واللطف . مسلاتية . الأرداف والكفل .. تاماوية الحياء والخفر .. ميدوبية الدل والدلال .. مسيرية الأدب والود .. برتياوية السمرة والصفاء .. ماهرية الجمال والنفور .. قمراوية البهاء والخجل .. ترجماوية العفاف والطهر .. ثم هي موشاة بصفرة بنات الريف . مشربة بغيم دار جعل .. وحكمة بني ضنقل ومحنة بني شايق .. وشهامة أهل العوض .. وجسارة فرسان الشرق .. وعافية أهل الجنوب .. كريمة البذل والعطاء والسخاء .. شديدة الاعتداد والزهو والإباء .. فياضة الصدق والوفاء ولا ينقصها المكر والدهاء .. وهي افريقية السحنة والاشداق.. عربية السيف والخيل والجمال .. لسانها عربي فصيح ... غرباوية الكلام واللكنة .. جلابية الحلي والحلل ... سودانية العطر والخُمرة .. شامخة الأنف ولا ترضي الحقرة .. ثم هي حاملة القرآن والسنة .. تتعلق بأستار الكعبة .. تسمي أبنائها باسماء الأنبياء .. والرسل وبناتها بأسماء أمهات المؤمنين .. وتلقنهم حب الوطن وكراهية بني صهيون..!
إنها دارفور عذراء الجبل وحوريته الساحرة ..التي فتنت الناس جميعاً . وهي تسترخي بجسدها المرمري المترف تحت عين الشمس .. تسند رأسها على قمة مرة في سوني .. وتتصبب شلالات من العرق العذب .. في نيرتني .. ومارتجلو وقلول وتمد ساقاً خرافية الى ساق النعام .. وأكفا ملأي بالخيرات الى أم دافوق .. وتشر شبال ضفائرها على الجنينة .. ورهيدالبردي ، وشنقلي طوباية .. والمالحة وتجاوز الغزالة جاوزت..!
إنها عذراء جبل مرة التي جئتها قبل عقدين من الزمان .. ووجدتها سارحة حالمة.. والغيم يغازل خدودها ورموشها .. ويبلل ضفائرها .. وشفتيها وخشيت أن تحس بي .. فلبدت وراء ظهرها وتدثرت بشعرها .. ولكن حرارة أنفاسي .. ودقات قلبي .. أشعرتها بوجودي .. فالتفتت نحوي بحنان طاغ .. وقالت هامسة .. جيتا .. جيت .. انت مرسال الشوق .. ولا اني غلتانه؟! فقلت لها .. أنا الشوق ذاتو!!
فانتفضت جالسة .. وقالت أبو الزفت .. أهو ده الكلام !! ثم طوقتني بساعديها .. وضمتني الى حضنها الدافئ برقة .. وأخذت توقع بأناملها على جسدي .. لحنا وتغني وكأنها لا تغني . مرسال الشوق .. يا الكلك ذوق
أغشي الحبان في كل مكان ..
في بورتسودان .. أو في أمدرمان
أو في مروي أو مارنجان..
قول ليهم زرنا .. جبل مرة
وأحسست من حرارة اللحن ودفء العناق انني أذوب في أعماقها وأتلاشى نقطة .. نقطة كنقاع الزير .. حتي قامت وجاءت ثم التصقت بي في ود شديد .. ووضعت قدامي طبقاً من فاكهة الجبل .. وسقتني من عسل النحل الذي يجري على الأرض كالزئبق .. وكوباً من البركيب .. وأطعمتني من دجاجها المكرفس ومن الأقاشي .. ومنصاص لحم عبد الجليل .. ومن الجربا ... وعصيدة الجير والدامرقا .. وخميس طويرا .. ثم ودعتني عائداً الى أهلي محملا بكل خيراتها والآن وبعد عقدين من الزمان .. أحلم في بعادي .. وأهتف باسمك يا حورية الجبل .. وأنادي ولا من مجيب .. فككيعك أيتها الحبيبة الغالية .. وقد فاض بي الشوق وكل مرسال أرستله إليك .. مشى وما جا .. وكل من حملته خطاباتي إليك زوّر توقيعي وسلمها الى غيرك...
أجيبيني يا حورية الجبل .. هل ترقدين عافية .. وتنامين هانئة .. وتصبحين سالمة .. أم أن أبليس قد استباح جنتك .. ووسوس من تاني .. في صدر آدمو .. وحواية .. ليخرجهما منها .. ويهبطوا منها جميعاً ..؟!
بتصرف من مقالي«مرسال الشوق» .. تحية لملتقى أهل السودان.
ميرغني ابراهيم
ميرغني ابراهيم
المشرف العام

المشرف العام

عدد الرسائل : 4016
العمر : 63
الموقع : السعودية
المهنة : طبيب
الهواية : كرة القدم
تاريخ التسجيل : 04/11/2007

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

كلام ساكت- أيام نميري Empty رد: كلام ساكت- أيام نميري

مُساهمة من طرف ميرغني ابراهيم الأربعاء مايو 05, 2010 6:34 pm

عن الوطن



كلام ساكت

أيــــــام النمـــــيري (2)

لواء «م»/ محيى الدين محمد علي

إن سنوات العهد المايوي لازالت .. تعيش في خواطر أهل السودان الذين عاصروها.. ما بين سادن من سدنتها.. وما بين معجب بها وما بين ناقم منها وشامت عليها.. والدليل على ذلك... أن الكثيرين من المعارف والأصدقاء والقراء الذين اطلعوا على المقال الأول من هذا المسلسل المايوي.. (شاغلوني).. بعضهم يتوجس خيفة من انطلاقة قلمي.. وخدشها.. لصورة بديعة في خواطرهم عن مايو.. التي عاشوها.. براعم.. وطلائع وكتائب.. وأعضاءً في الاتحاد الاشتراكي ويتمنون.. الرحيل إلى دار الخلود وفي أنفسهم شيء من مايو!!.. والبعض الآخر قال لي.. عاوز تشكر مايو.. وأنت صاحب ديوان الشعر.. (رسالة من شرطي إلى الصنم)؟!.. وآخرون ذكروني بمقالات كتبتها قبل عدة سنوات، أحث فيها من تبقى على ولائه المايوي.. لينضم إلى يونيو الإنقاذ باعتبار أن هناك قاسم.. بل قواسم مشتركة تجمع بين.. (مايونيو)!!.. كل (المشاغلات) كانت حبيبة إلى نفسي.. لأنها على الأقل... طمأنتي بأن الناس تقرأني.. وقد غبت عن ساحة الإعلام حولاً وبعض حول... وأقول لهم (شيلوا الصبر) لأن المقالات القادمة ستكون عند حسن ظنهم بإذن الله!! أما الأعزاء الذين وضعوا أيديهم على رؤوسهم خوفاً وفرقاً.. ظناً منهم بأني - لا سامح الله - أنوى تقمص روح مكي شبيكة... وقلم زلفو.. والتجرؤ على كتابة مادة تؤرخ للحقبة المايوية من تاريخ السودان الحديث.. وكشف أسرارها وخباياها... ورصد نجاحاتها وإنجازاتها.. و(نكش) سلبياتها وسقطاتها.. وفضح بلاويها الأخرى.. التي يعجز القلم عن قولها أو التعبير عنها... فإني أطمئن القراء الكرام.. بأني، لم أفكر في ذلك.. ولن أفكر فيه.. مع أن الأمر الآن متاح للجميع ويستطيع من يشاء.. أن يقول ما كان يود قوله زمان.. وأبوعاج أخوي يتقافر في الساحات.. ويزحم براياته الآفاق!!
نعم.. أنا لم أفكر لحظة في كتابة تاريخ مايو أو النميري.. لأني ببساطة لست مؤرخاً.. ولأن المؤرخين على قفا من يشيل.. ثم أني أيدت مايو وناصرتها عهداً.. ثم داهنتها وقتاً. ثم (كجَّنتها) زماناً.. وناصبتها العداء سنينا.. حتى سقطت وأصبحتْ في ذمة التاريخ.. ولو أني. كلفت بكتابة تاريخها (لغطستُ) حجرها.. وما أنصفتها.. فماذا أود أن أقول إذن؟!..
وأهو.. ده السؤال!! فأنا أود أن أقول وأحكي للناس.. ما رأيت وشفت عديل كده.. من مواقف وتصرفات.. وضحكات وغضبات وأحاديث و(طبظات) وأقاويل.. وحكايات وشمارات.. وطرائف.. ومقالب وحركات... وهلم جرات.. ترتسم صورها.. أبيض.. وأسود.. في خيالي كفيلم (هندي) مايوي طويل.. ممتع.. لا يمل يتقاسم الأدوار فيه.. بعض رموز النظام المايوي.. وبعض أعدائه.. وبعض من لا هم في العير ولا في النفير.. مع دور البطولة المطلق.. الذي لعبه النميري بتميز وإتقان.. ولعلها يا صديقي الشاعر الأديب اللطيف.. كمال الجزولي.. هي في حكايتنا مايو.. والتي أصبحت مايو في حكاياتنا..!!
إن الذين كتبوا تاريخ مايو.. لم يوثقوا لهذه المواقف المايوية.. والذين سيكتبون من بعد ذلك.. لن يوثقوها.. لأنهم لن يجدوها (طازة)، وقد تصلهم كبينة سماعية.. لا يمكن تصديقها أو الاقتناع بها ويسهل رفضها ودحضها واعتبارها من سقط القول.. والافتراء.. وبما أني.. كنت ضابطاً شرطياً صغيراً في جوبا.. عندما أذاع النميري البيان الأول في 25/ مايو 69.. وأعلن ثورة اشتراكية.. وعربية.. وشكل مجلس قيادتها برئاسته.. مزيناً من المدنيين بالسيد بابكر عوض الله رئيس القضاء الأسبق.. أمد الله في عمره ومن الضباط.. المقدم بابكر النور والرائد فاروق حمدنا الله والرائد هاشم العطا والرائد أبو القاسم هاشم والرائد زين العابدين محمد أحمد عبدالقادر .. عليهم الرحمة جميعاً.. ومتّع الأحياء منهم.. الرائد خالد حسن عباس والرائد أبو القاسم محمد إبراهيم والرائد مأمون عوض أبوزيد بالصحة والعافية.. وأناشدهم بحق هذا الوطن أن يكتبوا لنا سِفراً يحوي أسرار هذه الثورة.. التي تركت بصماتها على وجه هذا البلد الجميل!!
لقد عاصرت مايو كما ذكرت من قولة (تيت) وسمعت ببيانها الأول وما تبعه من قرارات في مدينة جوبا.. وعشت حديث المدينة عندما.. وصل إلى هناك.. بعض أعضاء مجلس قيادة الثورة... ودخلوا القيادة الاستوائية وسط انبهار وترقب ضباطها وجنودها.. وتلقاهم قائد القيادة.. حافي الرأس.. وبدون كاب حتى لا يؤدي التحية العسكرية.. لضباط كانوا بالأمس.. يوقرونه..ويؤدون له التحية طاعةً وانضباطاً.. وأن هذا القائد غادر معهم إلى الخرطوم... ليتقاعد.. بالمعاش بطوعه أو رغماً عنه.. لست أدري!! وظللت معاصراً للنظام وأنا اتنقل في شمال البلاد.. وغربها.. وقلبها واختزن في ذاكرتي.. كل ما يسر لي الله من المواقف.. ذات المعاني.. والتي لا يهتم بها عادة المؤرخون.. استمرت هذه المعاصرة كما قلت.. من قولة(تيت) وحتى قولة (طيط) وسقوط النظام تحت جحافل ثورة الجماهير في أبريل 1985م!! والذي حدث بعد عام واحد تقريباً من قيام النميري بنفسه.. تقليدي وآخرين من دفعتي.. نوط الخدمة الطويلة الممتازة.. والذي يمنح عادة بعد عشرين عاماً من العمل الممتاز.. كان نصيب مايو منها ستة عشر عاماً حسوماً.. وهي المعاصرة التي أعنيها والتي تخولني حق الكتابة.. عن مشاهدات رأيتها بعيني رأسي... لم يرها أحد غيري.. أو رآها ولم يتوقف عندها.. أو يهتم بها.. وكما يقولون... حبُّ الناس مذاهب!!.
أعلم أن القاريء الكريم.. قد تململ من طول هذا الحديث وبات يتشوق لسماع المشاهدات والمواقف التي أزعمها.. ولكن ما باليد حيلة.. فهذه الحلقة.. لا تحتمل المزيد.. لضيق ذات الورق.. ونعد بالانطلاق في فضائيات المشاهدات في الحلقات القادمة... ولكننا لا نرى بأساً من سرد.. فاتحة شهية.. حدثت قبل انقلاب مايو.. بأيام قلائل عندما احتجزت شرطة مرور الخرطوم.. العقيد جعفر النميري وآخرين من أعضاء مجلسه فيما بعد.. واتهمتهم بمخالفة قانون المرور.. واتخذت معهم كامل الإجراءات.. من كشف طبي واستجواب.. ثم سلمتهم لوحداتهم.. وأختم حديثي هذا بإرسال التحايا لحكمدار المرور وقتها أحمد هارون عبد المجيد.. والمزارع الآن في الدالي والمزموم.. وصاحب (كمبو الحلبي) الشهير.. وأساله عن مصير البلاغ... وماذا كان سيفعل لو كان يعلم بما سيفعل النميري؟! ونواصل..
ميرغني ابراهيم
ميرغني ابراهيم
المشرف العام

المشرف العام

عدد الرسائل : 4016
العمر : 63
الموقع : السعودية
المهنة : طبيب
الهواية : كرة القدم
تاريخ التسجيل : 04/11/2007

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

كلام ساكت- أيام نميري Empty رد: كلام ساكت- أيام نميري

مُساهمة من طرف ميرغني ابراهيم الأربعاء مايو 05, 2010 6:36 pm

عن الوطن



كلام ساكت
أيــــــام النمـــــيري (3)


لواء «م» / محيى الدين محمد علي


صدر كشف التنقلات من رئاسة الشرطة.. بعد انقلاب مايو.. ونقلت من الإستوائية للولاية الشمالية الكبرى.. وكان مدير شرطتها في ذلك الوقت.. العميد الرشيد أحمد جلي عليه رحمة الله.. والذي أبرق قومندان الإستوائية مفيداً بنقلي إلى بربر.. حتى أتحرك إليها مباشرة عوضاً عن التباطؤ والتسكع في رئاسة شرطة الولاية.. فحزنت لذلك جداً.. لأني كنت أرغب في الانتقال إلى مدينة دنقلا.. نسبة لمرض والدتي.. ففكرت في حيلة.. تعالج هذا الأمر.. ولم أتردد في إرسال برقية باسم مدير شرطة الإستوائية.. لعناية مدير شرطة الشمالية وقلت فيها.. برقيتكم بتاريخ كذا غير واضحة.. هل نقل الضابط محيي الدين إلى بربر أم دنقلا؟! وكانت المفاجاة.. أن جاءنا الرد.. نقل إلى دنقلا ويتحرك إليها رأساً، وقد علمت مستقبلاً من صديقي ودفعتي اللواء المحامي صديق الهادي والذي كان هناك وقتها.. أن المرحوم العميد الرشيد أحمد جلي.. المتميز بذكائه.. عندما اطلع على برقية الإستوائية.. ضحك وقال.. الزول ده عاوز دنقلا.. عدلوا الكشف.. وأخطروه بالموقع الجديد..!!
وهكذا نفذت النقل إلى مركز شرطة دنقلا.. وتوليت أعبائي فيها.. وكانت حدود المركز.. تمتد على طول النيل العظيم من عبري إلى دلقو.. ديار المحس والسكوت ومروراً.. بكرمة وأرقو.. والحفير ودنقلا.. والقولد.. وأهلها الدناقلة.. وحتى مشارف أهلنا المناصير.. والشايقية.. واستمتعت شهوراً بتولي رئاسة شرطة مركز دنقلا بالإنابة حتى وصلنا منقولاً.. العم (الملاحظ) أو النقيب.. محمد عبد الله محمد صالح وهو من ضباط الصف الأذكياء الأكفاء وقد تعلمت منه الكثير.. وقد كان المركز على امتداد طوله المترامي (كالعجورة).. هادئاً.. (زيت في قدر).. نسيجه الاجتماعي متماسك ومترابط.. لا جرائم ولا سرقات.. ولا نهب.. ولا صراعات قبلية.. أو أثنية.. والخير باسط والمسكين الفقير فيه يبدو في مظهره متألقاً ومتفوقاً على بعض أثرياء الخرطوم هذه الأيام.. لا يمد يده لأحد ولكن الخيرين هم الذين يمدون أيديهم إليه!!
وسمعنا ونحن في شمالنا السعيد أنباءً.. عن أحداث الجزيرة أبا.. وودنوباوي.. وتأثرنا لها.. مع أنها كانت حوالينا ولا علينا.. ولكن جهاز الأمن وقتها.. أراد أن يقض مضاجعنا ويؤرقنا.. فأرسل إلينا قائمة بوكلاء الإمام الهادي رحمة الله الذين يقيم معظهم.. في مناطق القولد.. والخندق.. ولبب وما جاورها.. وأمرنا باعتقالهم فوراً ورفع التمام بالتنفيذ.. وأصدر السيد الملاحظ أمره لي بالتنفيذ وسلمني كشفاً بأسماء ثلاثة عشر وكيل إمام.. (فنقنقت سراً) وتحركت ومعي مجموعة من رجال الشرطة.. على متن عربة لاندروفر بكب.. ركبها الزعيم الأزهري عند استقباله في دنقلا.. بعد إعلان الاستقلال عام 1956.. وأمر بعد الزيارة أن تسلم العربة للشرطة.. وبعد أن خرجنا من المدينة.. وعند قرية لاتبعد كثيراً جنوب دنقلا انقطع (سير) العربة.. فجلسنا تحت شجرة عتيقة ظليلة وبدأنا في (فتل) (سير) من حبال الأشميق أو العشميق لا أدري.. ولكني أدري بانه مستخرج من بين (أبج) النخيل.. وفي هذه الأثناء مر بنا رجل صبوح وحيّانا.. وعلم بمشكلتنا.. وقال سيبوا الكلام ده.. أنا عندي عربية لاندروفر زي حقتكم.. ستأتي بعد قليل.. يمكنكم أخذها.. أو أخذ (سيرها).. ثم دعانا إلى بيته فذهبنا.. وجلسنا خارج الدار فجاءنا أحد أقربائه (بجردل) ليمون بارد من (زير السبيل) فشربنا منه.. حتى ارتوى ظمؤنا.. والدنيا حر.. ثم جاء الرجل.. وقال.. ياجماعة أنا ضبحت خروف.. ولكم الخيار في الإفطار.. أو أخذه برأسه وجلده.. فقلت له.. عجل لنا بالفطور حتى.. نتمكن من أداء المهمة (الراجيانا)... ودخلنا إلى الديوان.. في انتظار الفطور وهالنا.. أن جدران الديوان الأربعة مزينة بصور للإمام المهدي والإمام عبد الرحمن والإمام الصديق... وصور شتى للإمام الهادي في طفولته.. وفي صباه.. وفي شبابه وإلى أن تولى الإمامة وارتدى العمامه..!
فحملت هماً كبيراً.. وأثناء احتساء الشاي.. سألت من يصبه عن اسم صاحب الدار.. وكان وياللهول هو الاسم الأول في الكشف الذي أحمله وأنا.. كالحمار يحمل أسفارا.. وجاءت العربة المنتظرة.. وتمت الناقصة وكان مكتوباً عليها.. حزب الأمة رمز القوة..!
استشرت زملائي رجال الشرطة.. الذين كانوا معي.. وقلت ليهم كيف الشورة؟! فقالوا لي.. الشغل شغل.. أكلنا وغسلنا إيدينا وظبطنا الكيف بالشاي ويمكننا.. الآن.. أن نعتقله!! فقلت لهم والله.. لا أفعل.. فلنأخذ منه (السير) ونعتقل الآخرين.. ثم نفوض أمره للملاحظ.. ليعتقله بنفسه.. وما بين غمضة عين وانتباهتها قد يغير الله من حال إلى حال!!.. وتمكنا في زمن وجيز من اعتقال كل الأسماء التي كلفنا بها.. دون جلبة أو ضوضاء.. غير نظرات الكره والاحتقار التي كان يشيِّعنا بها أهل المعتقل.. وأبناؤه وبناته... وأتوقف هنا.. عند اعتقال السيد.. وكيل الإمام.. (الفضل) وهو والد الصديق الفنان التشكيلي عبد الحميد الفضل.. والذي.. استهجن أمر اعتقاله.. وهتف بحياة الإمام ثم لف عمامته تاركاً (العَزَبة) تجر من ورائه على الأرض.. حتى ركب العربة.. مثيراً قدراً من السخرية والتهكم بنا.. وبمهمتنا (المهببة).. وجئنا بكل المعتقلين.. إلى نقطة شرطة القولد وأدخلناهم الحراسة.. وجلست أسجل بيانات المعتقلين في دفتر القبض.. وقبل أن أفرغ.. جاءني أحد رجال الشرطة مفزوعاً وهو يقول.. الحق.. ياجنابو.. النميري على «الهط».. فأسرعت وأخذت سماعة التلفون.. وعرَّفت نفسي فقال لي.. أنا جعفر نميري.. رئيس مجلس قيادة الثورة.. جاتكم برقية لاعتقال وكلاء الإمام؟! قلت نعم.. وقد اعتقلناهم.. فقال لي.. لا.. وكلاء الإمام في دنقلا ما في خطورة منهم.. أمسكوا.. واحد ولا اثنين منهم للتحذير وفكوا الباقين!! قلت.. له ياسيدي الرئيس.. إن الأمر يتصل بالأمن.. وأنا أتلقى الأوامر.. من القومندان في عطبرة.. فقال.. كويس خبِّط للكبانية لتحويلي إلى القومندان في عطبرة.. وفي لمح البصر.. نفذ عامل الكبانية الأمر.. وقبل.. أن أغادر مكاني.. اتصل بي (الملاحظ) من دنقلا.. وقال لي.. أوامر جديدة.. امسك واحد فقط.. وأطلق الآخرين.. ولم أتردد البتة في كتابة اسم صاحب الليمون والخروف ضمن المعتقلين.. ثم إطلاق سراحه ضمن الآخرين ولم أُبقِ في الاعتقال ـ بكل أسف ـ إلاَّ والد الأستاذ عبد الحميد الفضل.. وعدنا إلى مدينة دنقلا سعداء.. وقابلنا الرجل الكريم.. لنرد له.. (السير) فقال.. أنا عندي (سير) تاني.. فسيروا وعين الله ترعاكم!!
ميرغني ابراهيم
ميرغني ابراهيم
المشرف العام

المشرف العام

عدد الرسائل : 4016
العمر : 63
الموقع : السعودية
المهنة : طبيب
الهواية : كرة القدم
تاريخ التسجيل : 04/11/2007

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

كلام ساكت- أيام نميري Empty رد: كلام ساكت- أيام نميري

مُساهمة من طرف ميرغني ابراهيم الجمعة مايو 21, 2010 3:11 pm

كلام ساكت
أيـــــــــام نمـــــيري (4)


لواء «م»/ محيى الدين محمد علي



ظللت أعمل بمركز دنقلا ... قرابة العامين .. وحدثت خلال هذه الفترة أحداث جسام .. منها كما ذكرت في مقال سابق .. أحداث الجزيرة أبا ... والتي تأثر لها .. أهالي دنقلا الجنوبية ... وهي جزيرة لبب وما حولها ... مسقط رأس الإمام محمد أحمد المهدي .... وأهل الدائرة المقفولة للراحل أمين التوم ... كما تأثر كذلك أهل جزيرة بدين .... حزناً على استشهاد ابنهم محمد صالح عمر .. وتعاطف الجميع في ديار الشايقية وحتى أرقو .. حيث ينتشر (الكوارير) مع الشيخ الكاروري .. والذي كان مع الإمام الهادي .. وكان من أبرز الأحداث زيارة النميري مصحوباً بوفد كبير من الوزراء وقادة الخدمة إلى دنقلا ... وقد جاءوا إليها على متن الباخرة (كربكان) .. ثم تحركوا بالسيارات والأقدام تحيط بهم الجماهير حتى صيوان الاستقبال .. وحيا النميري جموع الشعب التي ظلت تهتف باسمه .. بعض الوقت .. وجلس في الموقع المحدد له ... وكان يبدو مستاءً ولا أدري لماذا .. ولعل ذرات التراب الناعم .. التي علت رأسه وملابسه وملامحه .. كانت هي السبب .. وقبل أن تبدأ مراسم الاحتفال .. نهض رجل طيب جداً .. وهو من أثرياء دنقلا ورموزها الخيرين .. وتحدث بصوت جهوري قوي .. وقال: «يا ريس إنت ولدنا وأنحنا عاوزين ننصحك» ... وقبل .. أن يتم كلامه .. ويقول نصيحته قاطعه النميري .. بحدة قاسية وقال له : «أنا الجيت أنصحكم .. موش عشان تنصحوني»!! فأسقط في يد الرجل وأحس بالحرج .. وتراجع ليتلاشى وسط الجموع .. ثم ينسحب بهدوء .. ويغادر إلى متجره أو داره .. وهو يردد : «الدين النصيحة .. لكين دول ما عايزين نصيحة .. بكره يكوسوها ما يلقوها .. على كيفهم»!!
وبدأ برنامج اللقاء الجماهيري وخاطبه النميري .. ونصح أهل دنقلا .. بالتخلص من عار الشكاوي الذي إرتبط بهم .. وقبل أن يختم خطابه .. أفلتت امرأة من أيدي رجال الشرطة .. واندفعت لتعانق النميري وهي تردد : «أبو عيالي .. أنا عاوزه أبو عيالي»!!. لم يتضايق النميري كثيراً ولكنه قال : «يا بتاع البوليس .. ماله أبو عيالها»؟! فقلت : «إنه محكوم بالسجن لمدة عام» .. فقال النميري : «خلاص كفاهو .. فكوهو طوالي» .. فخرجت المرأة .. وهي تزغرد .. لتتعلق برقبة رئيس الشرطة .. ولعل هذا الحادث قد لفت نظر النميري .. فدخل السجن وحراسات الشرطة .. وظل يسأل كل محتجز عن ظروفه وأسباب احتجازه .. ويأمر باطلاق سراح البعض .. غير أن أحد عتاة المجرمين أجاب عليه باستهتار .. وكأنه يباهي بارتكابه جريمة أخلاقية مع آخر ... فأنتفض النميري وابتعد عنه وخرج من السجن .. وهو يردد : «الله لا رحمك.. الله لا رحمك».. وفاتت بذلك فرصة نادرة للعفو عن آخرين .. لم يحادثهم الرئيس!! ومن طرائف ذلك اليوم.. أن أحد المايويين .. كان مكلفاً بإعداد الوجبات لضيافة الرئيس والوفد المرافق له .. وتصرف الرجل بأخذ الخراف المحشوة ... وذهب بها إلى أحد الأفران في السوق وقام بطهيها وتحميرها .. وإحضارها للفندق ولكن أحد الاشقياء .. وكان يعلم بأن الرجل حساس .. وخواف شوية .. فسأله : «إنت ما عارف صاحب الفرن ده من الأنصار ... جايز جداً يكون سمم الأكل .. شيل شيلتك .. والله الرئيس ده تحصل ليهو حاجة يعلقوك في الميدان»!!.. وتأثر الرجل .. واهتزت أعصابه .. مرض (رسمي) ولم يبلغ صحته إلا بعد أشهر!! وفي صبيحة اليوم التالي .. كان برنامج الرئيس .. أن يزور حوض السليم ليستمع إلى تفاصيل وشكاوي أهل المنطقة .. المتصلة بتوزيع حواشات الحوض .. فأسرعت قبل الموعد بساعة كاملة وأخذت قوة من رجال الشرطة وتممت عليها داخل البنطون توطئة للعبور إلى السليم .. ثم صعدت بعد ذلك إلى برج البنطون .. حيث (يتحكر) الريس الذي يقود البنطون .. وما أن صعدت حتى فوجئت .. بريس آخر يجلس في موقعه .. ويمسك بعجلة القيادة .. وقد كان هو النميري بشحمه ولحمه في كامل زيه العسكري .. فلما رآني خاطبني بلغة آمرة .. وكأنه لم يحدث أن رآني في توريت زمان .. وقال : «أمشي الباخرة .. وخلي الوفد المرافق .. يحضر الآن .. في خمسة دقائق» ... فجريت جرياً .. وصعدت إلى الباخرة وفجرت الخبر .. ونهض الكل مذعوراً ... يرتدي ملابسه .. قبل أن يتسوك .. أو يغسل وجهه .. والأهم من ذلك .. قبل شاي الصباح .. وفي أقل من نصف ساعة تحرك البنطون يحمل الجميع إلى الضفة الشرقية .. ولعلها كانت أصعب لحظات (ريس البنطون) .. وهو يقود بحذر ويختلس النظرات بقعر عينه .. إلى النميري .. الذي كان يجلس إلى جواره ..!!
ولما بلغ الموكب ساحة اللقاء الجماهيري في السليم .. وجلس الوفد داخل الصيوان .. وقف النميري وأخذ يتلفت ويشتم رائحة الأريج والعبير .. الذي عبق وغمر الجميع ويتساءل عن مصدر هذا العطر ... ولما علم بأن مكان الاحتفال محاط بعشرات الصفائح .. وبداخلها باقات مفرهدة من النعناع .. في حجم ربطة البرسيم .. انفرجت أسارير النميري .. وسعد أيما سعادة وقال : «موضوع النعناع ده كلام جميل جداً .. في الخرطوم .. وزير الزراعة .. بشم زهور بلاستيك»!!
ثم تعاقب المتحدثون وأصحاب الشكاوي .. حتى .. أمسك بالمايكرفون كهل (عكليتة) .. وأخذ يشكو ما حاق به من ظلم .. وكان صوت الرجل ناعماً رقيقاً .. كصوت الطفل .. وطأطأ النميري رأسه محاولاً منع ضحكة .. كانت على وشك الافلات منه .. ولكن الرجل قال بجرأة يحسد عليها : «بتضحك ليه يا ريس ..؟! أنت سمعت صوتي كده فاكرني أيه؟ عليّ الطلاق أنا أرجل راجل في السودان كله»!!..
أكمل النميري ضحكته المكتومة وخاطب رئيس اللجنة المختص ... وقال : «حلوا مشكلته .. حل نهائي»..!!
وعندما زار مدينة أرقو نزل الرئيس والوفد المرافق في ضيافة .. المرحوم جاد غريب مقلد .. وهو أثرى أثرياء المنطقة .. وقدم للجميع أصنافاً من الطعام .. جعلت البعض يتساءل عن ماهيتها .. وأخذ النميري .. الرغيف البلدي الذي يصنعه الناس هناك في حجم (طارة الكلتش) وصار يقلبه بين يديه متعجباً ويقول : «ده رغيف واحد بس؟ .. تبقوا إنتو يا ناس أرقو .. السبب في أزمة الدقيق» .. وأضاف : «لقد زرت معظم مدن السودان ولم أجد بلد ما عندها مشكلة غيركم .. أنا تاني موش حأجيكم» .. وأحسب أنه قد صدق!!.
وعندما أليل الليل في مدينة أرقو ذهب كل واحد من أفراد الوفد إلى مضجعه .. عدا مجموعة من أعضاء المجلس وآخرين .. جلسوا يتسامرون في ركن قصي من حديقة منزل جاد غريب .. وإلى جوارهم صينية فارهة تنوء بالدجاج والأوز واللحوم والكنافات والمكسرات والمربات .. وأحسب أن الجماعة .. قد استرجعوا وجبات الكسرة والعصايد .. وغيرها من الوجبات البسيطة التي تنم عن حال أهلها في مناطق أخرى من السودان .. فأرادوا بذلك أن يلقنوا أهل أرقو درساً قاسياً في الثورية والاشتراكية .. والاقتصاد ... فطلبوا القائمين على أمر خدمتهم .. وأمروهم برفع صينية العشاء فوراً .. واستبدالها بصحن فول من فول السليم المعطون بزيت السمسم ... فأخذوا الصينية وجروا شرقاً وغرباً لاحضار الفول وأرضاء الحكومة ... ولم يكن الفول وقتها (أكلة متداولة) .. كما يحدث الآن .. فألتقوا رجلاً بسيطاً .. وقد أعد صحن (طلس) كامل بالفول .. المدعوم بالزيت والبصل وقد زرعت فيه ألغام الشطة الخضراء وعندما أخبروه بحاجتهم للفول ... بناء على طلب الحكومة .. قدر الرجل الموقف وأعطاهم الصحن وطالبهم بإعادة الفاضي .. ولكن الصحن أعيد إليه وفيه دجاجتين محمرتين و(هَُبراً) من اللحم المجاور للعظم ... احتفى الجماعة بصحن الفول فأنكبوا عليه كمن يؤدون القسم .. وقضوا عليه هنيئاً مرئياً .. ثم خرجوا من دائرة الأكل كالعائدين .. من موقعة حربية .. يتصببون عرقي .. أقصد عرقاً .. وانصرفوا إلى مضاجعهم .. سعداء .. وشاع بعد ذلك أكل الفول بالبصل بين العباد وتطور حتى صار الفول فطوراً وعشاءاً .. بعد اسقاط وجبة الغداء!!.

ونواصل
ميرغني ابراهيم
ميرغني ابراهيم
المشرف العام

المشرف العام

عدد الرسائل : 4016
العمر : 63
الموقع : السعودية
المهنة : طبيب
الهواية : كرة القدم
تاريخ التسجيل : 04/11/2007

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

كلام ساكت- أيام نميري Empty رد: كلام ساكت- أيام نميري

مُساهمة من طرف ميرغني ابراهيم الجمعة مايو 21, 2010 3:14 pm

5و6 مفقودتان

كلام ساكت
أيـــــام النمــــــيري (7)

لواء «م»/ محيى الدين محمد علي

كان المد الاشتراكي.. يتنامى في العالم.. وكان العالم الثالث كله يتململ راغباً في الانعتاق.. واستشراق.. فجر جديد تسوده العدالة.. وكان صوت الزعيم الثائر جمال عبد الناصر.. يجلجل في كل أنحاء العالم.. وبخاصة في أفريقيا والعالم العربي.. ولم يكن غريباً.. أن تتفجر في أي دولة من الدول ثورة.. تنادي بالاشتراكية.. أو الشيوعية (حتة واحدة كده).. وخلال هذا المناخ السياسي المواتي.. مدفوعاً بالمناخ السياسي القاتم.. داخل البلاد.. تفجرت ثورة مايو عام 1969م.. تتوشح وشاح الاشتراكية وترفل في (قرجيه) الوحدة العربية.. وتستطيع أن تستضيف الزعيم جمال عبد الناصر ليدعمها ويخاطب العالم كله من دار الرياضة في الخرطوم..
وخرجت جماهير الشعب كلها.. الأعمى شايل الكسيح تهتف للثورة وتؤيدها.. وتدافع عنها.. وترحب بقرارات التأميم والخطوات الاشتراكية الأخرى التي اتخذتها.. والخطوة الجريئة التي مشتها في اتجاه حل مشكلة الجنوب... (الغرغرينة) التي أصابت جسد الوطن قبل استغلاله وكان يمكن لمايو أن تستمر.. وتبقى وتنجح وترسم خط المستقبل للسودان وأهله.. ولكن وآه.. من لكن هذه.. فقد آثر الشيوعيون أن يظهروا عياناً.. بياناً.. وهم الذين لم يؤيدوا بيان الثورة الأول.. تقيةً أو تمويهاً أو من باب خلي نصفك عاقل ونصفك مجنون.. ولما تحقق الانتصار.. ذهب التردد وجاءوا بمعاولهم يهدمون القديم بدون روية.. و(يورُّونا) جديداً ما كان على بال.. ويخرجون وفي يديهم .. الفرشاة.. حتى أن نكتة لاذعة سرت بين الناس تقول بأن النميري سيقوم بتأميم المساجد.. وتسميتها (مؤسسة الرحمن للصلاة).. إن الشعب السوداني شعب اشتراكي تعاوني بطبه.. وقد قال الرئيس الصيني شاوين لاي عندما أدخله الرئيس الأزهري صيوان عزاء.. ورأى مئات الصواني الملأى باللحم والخبز.. والناس يبكون ويأكلون بلا هوادة.. وتساءل.. من أين لأهل الميت إعداد كل هذا الطعام؟! فأوضح له الأزهري بأن هذه الموائد.. جاءت من كل بيت في قرية المرحوم.. ففغر الصيني فاه.. وقال.. بالصيني طبعاً.. دي الاشتراكية الكايسنها في الصين وما لا قنها!!.. ومغزى كلامي أن أهل السودان.. لم.. ولن يكونوا في حاجة إلى ماركس أو لينين أو حتى ماو ليعلمهم شؤون حياتهم.. وبين أيديهم دين حنيف.. يقول: تبسمك في وجه أخيك صدقة.. واتقوا النار.. ولو بشق تمرة!!
كرد فعل طبيعي على نشاط الشيوعيين وتحركات بعض كوادرهم المستفزة لمشاعر الناس.. ظهرت فئات تناصب مايو العداء.. تكتب على الجدران.. وتهاجمها في الساحات والمساجد.. ومن المواقف التي عاصرتها في مدينة دنقلا.. والتي أشرت إليها في مقال سابق.. أن مولانا حسن أحمد حامد وهو عالم ضرير.. خطب في أحد مساجد المدينة وهاجم مايو بشراسة.. وقال ضمن خطبته.. إن الشيوعيين قد تجاوزوا كل الحدود.. وهم يحتفلون بذكرى ميلاد لينين.. وهذه الذكرى تصادف ميلاد سيدنا عمر بن الخطاب «رضي الله عنه».. أهاجت خطبة مولانا حسن مشاعر المصلين.. حتى كادوا أن يخرجوا في مظاهرة تدين مايو.. وقمت كضابط مسؤول عن الأمن في المدينة برفع تقرير إلى الرئاسة.. بهذا الحادث.. وسرعان ما جاءني الأمر باعتقال الشيخ وفتح بلاغ ضده.. وقمت بهذا الإجراء واعتقلت الشيخ في هدوء ودون إثارة، ولكن مركز الشرطة بعد لحظات كان محاطاً بالمئات من رجال دنقلا وشيوخها الذين يقدرون الرجل ويجلونه، وحاصروني بالأسئلة والانتقادات واستطعت أن أجبر بخواطرهم.. وأهدئهم وأعدهم.. بأن الأمر سينتهي على خير بإذن الله.. وعلى ذلك توليت التحري في البلاغ بنفسي.. واستمعت لأقوال المبلغ والشهود.. وأُحضر الشيخ أمامي.. فأجلسته.. وبدأت أسأله للتيقن من النقاط التي وردت في خطبته والتي تجرمه وتحسب عليه، وأحسن الشيخ بذكائه الفطري وأدرك قصدي وقال لي.. يا إبني أنا أحفظ ما قلته عن ظهر قلب وأكتب عندك.. وقام بقراءة خطبته عليّ بالسرعة الإملائية.. فكتبتها كما قالها وكل حرف فيها يكفي لإدانته بارتياح شديد وبدون شهود كمان!! شكرت الشيخ وأعدته للحراسة.. لتبدأ معه رحلة العذاب.. وأحسب أنها المرة الأولى التي يعذب فيها المتهم معتقليه.. ذلك لأنه شيخ وقور وعالم.. وأنه ضرير.. وأنه في حراسته.. لا يتوقف عن التسبيح وتلاوة القرآن.. ثم لأنه ظل ينادي في كل لحظة.. أريد أن أتوضأ أريد أن أصلي الفجر لوقته.. أريد أن أصلي الضحى.. أريد أن أتنفل.. وأن أتهجد.. وأن أتطهر.. وظل باب حراسته يفتح ويقفل بانتظام.. وقد أمرت رجال الشرطة بأن يستجيبوا لكل طلباته.. عدا الضمانة!!
تضايقت كثيراً من وجود الشيخ حسن في الحراسة لظروفه الخاصة.. وتعدد دخلاته ومرقاته من الحراسة.. وما ظل يحاصرني به.. أهل دنقلا وشيوخها.. فتوكلت على الله وخاطبت الرئاسة ـ عطبرة.. موضحاً محنتنا مع الشيخ.. ومعبراً عن إمكانية تحول الجماهير عن الثورة ومناصبتها العداء.. بسبب اعتقال هذا الرمز الديني.. وطالبت بالعفو عنه وإطلاق سراحه.. أو تحويله إلى عطبرة.. وكانت المفاجأة.. أن جاء الأمر بالعفو عنه وإطلاق سراحه وبقرار من النميري شخصياً.. ولا أجزم بأن خطابي كان السبب!!
ومثل ما فعل الشيخ حسن.. فعل آخرون.. في شتى المواقع.. وكنت أحسب كل ذلك إرهاصات تنبىء بتغيير ما.. وكان تقديري.. يتجه نحو إعلان النميري.. براءته من قوم ابن محجوب.. أو «مزيكة» جديدة وانقلاب عسكري وأنا ماشي أمريكا أو ثورة شعبية.. كثورة أكتوبر.. تعيد السيدين الجليلين.. إلى القصر.. ولكن حدث ما لم يتوقعه حتى الذين قاموا به.. والذين لم يعجبهم (حَمَار) مايو.. فجاءوا بحركة أكثر احمراراً!!
لقد حزنت جداً لوقوع انقلاب 19 يوليو 71 والذي تم في منتصف النهار على غير عادة الانقلابات والمغيرات صبحا.. وحزن أهل السودان جميعاً ولكني كنت مثل.. الإداري الجنوبي.. برنابا كاسنقا.. محافظ الشمالية بالإنابة عندما قام الشيوعيون بمظاهرة صاخبة تظللها الرايات الحمراء في عطبرة.. وساروا إلى قيادة المدفعية.. وخرج لهم قائدها وخاطبهم مؤيداً مباركاً.. ثم اتجهوا إلى المديرية وقدموا المحافظ بالإنابة برنابا كاسنقا ابن الجنوب الثائر ليخاطب الجماهير.. ولكنه وبحكمة أهل الجنوب ودهائهم أمسك بالمايكرفون وقال.. طبعاً يا جماعة إنتوا عارفين عربي بتاعي ماكويس.. شكراً.. ليكم .. ثم نزل ودخل مكتبه.. وداعبه أحدهم وقال له.. وليه ما إتكلمت بالإنجليزي؟! فقال برنابا: يا أخوي.. أنت ما نصيح.. والله جماعة ديل ما بتموا إتنين يوم في كرسي!!
لقد كان انقلاب 19 يوليو.. هو الانقلاب الخطأ.. في الزمان الخطأ.. وفي البلد الخطأ... وقد وصفه بعضهم بالمثل السوداني الظريف.. عايرة وأدوها سوط.. وكما توقع برنابا.. سقطت الحركة وأعادت الجماهير النميري.. إلى دست الحكم في 22 يوليو.. وظل بعدها في السلطة خمسة عشر عاماً.. أعانته عليها 19 يوليو بلا شك.. ورب ضارة نافعة.. ورب نافعة ضارة!!
لقد كان انقلاب 19 يوليو.. انقلاباً مشؤوماً انتهى بإعدام كل قادته ومؤيديه.. وراح ضحيته رجال من أكفأ الضباط في مجزرة بيت الضيافة.. بل وحرمت البلاد من قامات سامقة تستحق الاحترام والتقدير.. مثل المفكر عبد الخالق محجوب والنقابي الكبير الشفيع أحمد الشيخ.. والجنوبي اليساري جوزيق قرنق.. وانتهت حيواتهم بطلقات نارية لو كانت تعلم نتيجة فعلها لاستحالت إلى فشنك!!
نعم كان انقلاباً مشؤوماً لأن السجون والمعتقلات اكتظت على أثره بالرجال والنساء.. وتجاوز عددهم في الشمالية وحدها الألف معتقل.. قضى المخططون منهم في المعتقل شهوراً طوالاً وبقي الآخرون سنوات أطول.. فقدوا خلالها وظائفهم.. وخسروا أعمالهم وضاعت أسرهم.. وتفككت!!
عندما.. وقع انقلاب هاشم العطا نهاراً جهاراً رُصد من أيدوه بالبرقيات والتهانئ وكان عددهم ستين شخصاً.. دوافعهم كلها لا علاقة لها بالشيوعية.. ومظاهرة بائسة واحدة خرجت من بضعة رجال.. وزفة أطفال وعيال.. ولما فشل الانقلاب.. وعاد أبو عاج.. قمت باعتقال بعض المتظاهرين.. وبعض المؤيدين وكانوا لا يتعدون السبعة.. ولكن لقد «جاطت» البلاد بعض الوقت بعد اندحار الانقلاب الشيوعي.. ونصّب العديد من أنفسهم حراساً لمايو.. فظلموا بغير علم وأصابوا الكثيرين بالأذى.. وبلغت آثار هذه «الجوطة» الشمالية ومنطقة دنقلا إذ تنفست الأحقاد بين الناس.. وسعى بعضهم لاستغلال الظروف لينتقم ويثأر أو يبتز.. وأصبحتُ أستقبل بين الفينة والأخرى.. رجالاً مكتوفين بالحبال.. محمولين على ظهور الحمير.. وعربات الكارو.. وأمسك يا جنابو.. ده (شعوعي) ابن الـ......! وتصرفت.. باللجوء إلى بعض شيوخ المدينة وحكمائها... لمنع الناس من مثل هذه التصرفات التي ستنقلب في النهاية إلى صدامات بين الأُسر.. والبيوتات.. وحدث حادث بشع.. أدى لتوقف الناس من هذه الممارسات القبيحة.. وذلك عندما هاجم البعض رجلاً.. قدم إلى دنقلا بحثاً عن الرزق ورجموه بالحجارة.. وهم يهتفون.. أضرب الشيوعي أضرب الشيوعي.. وتدخلت الشرطة في اللحظات الأخيرة وانقذت الرجل المسكين وهو على مشارف الهلاك.. فاستغليت هذه الحادثة وأجريت تحقيقاً.. مع كل من اعتدى على الرجل أو حرض على ذلك.. وشمل العشرات من مثيري الشغب.. فهدأت الأحوال وكف الناس عن مهاجمة الآخرين واعتقالهم.. وامتلأت المجاري والكوش وتطايرت في سماء المدينة.. آلاف الأوراق والكتب والمنشورات الشيوعية، والتي تخلص منها أصحابها من ذوي الميول اليسارية تحسباً لحملات تفتيش متوقعة!!
عمر انقلاب 19 يوليو.. كان عمراً قصيراً جداً بحسب الساعات، وقد كشف هذا الوقت القصير كل الذين كانوا ينافقون النميري.. وكشف الغطاء عن أسرار الحزب الشيوعي التي ظل يتميز بها.. فبدد شمله وفت في عضده.. ولعل أصدق تعبير عن ذلك عندما التقاني الأستاذ محمد إبراهيم عبده كبج.. وكان مناوئاً للراحل عبد الخالق محجوب.. فسلم على طفلي الصغير ولم يسلم عليّ.. فسألته عن ذلك فقال.. علشان نعيد الحزب من تاني.. يتحتم علينا أن نبدأ المشوار مع الأطفال عمر يوم واحد!!
شاعت في البلاد.. نكات وطرائف كثيرة ورسمت العديد من الكاركتيرات.. تعبر عن الجهجهة التي وقع فيها الكثيرون.. (المذبذبون) ومطاردتهم لبرقياتهم التي أرسلوها.. بقصد اللحاق بها وإعدامها.. وشاعت طرفة.. الفنان الذي بدأ يسجل أغنية مطلعها هاشم العطا.. صحَّح الخطأ.. ولما سمع أصوات المدافع.. عدل الكلمات وقال .. هاشم العطا (سوا) الخطأ...؟
لقد عاشت البلاد (جوطة) ودفع كثير من العباد ثمنها غالياً.. وقد كنت أستمع إلى المذياع ومايكرفون الإذاعة يجري لقاءً على الهواء مباشرة مع أحد الجرحى في السلاح الطبي ويسأله عن الحاصل.. فقال.. الموضوع هو أن جماعة هاشم العطا عملوا مؤامرة دنيئة شالوا النميري.. أنحنا كمان عملنا مؤامرة دنيئة أكبر من حقتهم... ورجعنا النميري!! ويا لها من دناءة!!



نواصل
ميرغني ابراهيم
ميرغني ابراهيم
المشرف العام

المشرف العام

عدد الرسائل : 4016
العمر : 63
الموقع : السعودية
المهنة : طبيب
الهواية : كرة القدم
تاريخ التسجيل : 04/11/2007

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

كلام ساكت- أيام نميري Empty رد: كلام ساكت- أيام نميري

مُساهمة من طرف ميرغني ابراهيم الجمعة مايو 21, 2010 3:14 pm

كلام ساكت
أيـــــام النمــــــيري (Cool


لواء «م»/ محيى الدين محمد علي

كانت مدينة دنقلا .. مدينة صغيرة وكان عدد الموظفين فيها محدوداً جداً .. مما جعلهم أُسرة واحدة.. تلتقي في المكاتب والأمسيات.. وكان الأستاذ حسن عبد الماجد المحامي.. والرمز الشيوعي المعروف.. هو نوارة الجماعة... بلطفه وظرفه وخفة دمه وحلو حديثه.. وشهامته التي كانت تتجلى في دفاعه عن المعوزين أمام المحاكم بلا مقابل.. والتي كان يحرص على حضورها الكثير من الناس.. لأن دفاع الأستاذ حسن كان لا يخلو من طرفة أو نكتة.. وذات مرة فتح ملاحظ الصحة بلاغاً ضده، وقال للقاضي هذا المحامي يربي الناموس في (خرارة) ماء مصدرها منزله.. وقال المحامي حسن مدافعاً عن نفسه.. يا مولانا أنا موش قادر أربي عيالي.. أقوم أربي الناموس؟! وضحك الجميع وانتهى الأمر.
لقد كان الرجل صديقي ومع ذلك فإن واجبي الشرطي قد حتم علىّ أن أخصه بتقريرين متباعدين رفعتهما للرئاسة عنه مرة.. عندما خطب في أحد الأندية بدنقلا وقال إن المرء.. يسعد .. أنه عاش ورأى الحكومة تحتفل بعيد العمال.. ومرة أخرى لما قال في (ونسة).. أن الشيوعيين جناح معاوية.. مرتزقة وجماعة عبد الخالق.. حيودوا الحزب في ستين داهية!!.. ولكن وفي صبيحة يوم 17 يوليو.. جاءني الأستاذ حسن عبد الماجد.. وهو بالمناسبة صهر الفنان محمد وردي.. ودخل لمكتبي على عجل.. وقال.. أنا لازم أكون في الخرطوم اليوم.. أنا عاوز بنزين كفاية.. وطلب شيئاً آخر.. لا أذكره وأعطيته ما أراد.. فودعني وقال لي.. أنا ماشي الخرطوم.. عاوز تبقى مدير عام شرطة.. ولا.. محافظ الشمالية؟!.. فقلت له وأنت حتكون الرئيس؟! فقال مقهقهاً أنا حأكون وزير الداخلية.. ثم ودعني مرة ثانية وخرج مسرعاً.. وغادر بالفعل إلى الخرطوم.. واعتبرت كل ما قيل.. بعض نوادر المحامي حسن.. التي عودنا عليها غير أني تذكرت كل ذلك في يوم 19 يوليو.. عندما أُذيع بيان هاشم العطا.. ولم يلبث.. أن قرأ.. المذيع.. أول برقية تأييد لحركة التصحيح من حسن عبد الماجد المحامي.. بقلمه السلس ولغته االرفيعة الما بتغباني!!
استقبلت الشمالية وأهل دنقلا ما حدث في الخرطوم.. بالصمت والوجوم والبعض بالغضب والبكاء.. وكان أول من دخل مكتبي.. مجموعة من الرجال والنساء.. كانوا قد تعاقدوا مع الفنان عثمان حسين وأبو عركي البخيت وآخرين لإحياء حفل ليلة 19 يوليو وذلك.. إن لم تخني الذاكرة من أجل الثورة الصحية.. وأبدوا تخوفهم من إلغاء الحفل الذي يتسبب في خسارة للمتعاقدين.. وربما يؤدي إلى ثورة المواطنين.. الذين قطعوا التذاكر وتهيؤوا وأُسرهم لهذا اليوم الترفيهي النادر.. وتوكلت على الحي الدائم.. وقلت.. لهم.. ليقم الحفل في موعده.. وسأكون أول من يحضره.. وقام الحفل بالفعل.. وسلمت الجرة هذه المرة!!
وفي صبيحة 20 يوليو والأيام التالية هاجمني شاب شيوعي.. يرأس إحدى النقابات العمالية.. واقتحم مكتبي وسبني.. واتهمني بالرجعي المتعفن و(دق) أمامي منشوراً مطبوعاً طويلاً لحركة 19 يوليو.. وقمت باعتقاله والزج به في الحراسة.. كما سبق وأن ذكرت ثم تحركت مواكب مؤيدة.. هزيلة جداً يقودها بضعة من الرجال وزفة من الأطفال الصغار.. فراقبتها حتى تفرقت.. وأخطرت الرئاسة بأسماء عناصرها وهتافاتهم.. ونسقت مع ضابط البريد المسؤول.. لمدي بصور كل البرقيات التي أرسلت تأييداً ودعماً للانقلاب، وكان مجموعها ستين برقية.. ليس من بين مرسليها.. شيوعي واحد.. ولما سقطت حركة 19 يوليو.. وعاد النميري إلى السلطة اجتاحت الولاية الشمالية.. مظاهرات عارمة تندد بالشوعيين.. وتهتف بحياة النميري وتطالب بالمزيد من الاعتقالات والإعدامات.. التي طالت العديد من العساكر والمدنيين.. ولكني تصرفت بهدوء شديد.. واعتقلت سبعة أشخاص كانوا ضمن المتظاهرين.. ولم أعتقل أحداً من مرسلي البرقيات.. وبعد أن استتب الأمن في الخرطوم.. انطلقت قيادات مايو.. لأصقاع السودان المختلفة.. يهنئون ويتلقون التهانئ.. بعودة الرئيس القائد.. وجاءنا الدكتور محيي الدين صابر.. يرافقه محافظ الشمالية.. سعد عوض.. عليهما الرحمة، واستغلا رفاساً أو باخرة نهرية صغيرة.. وجابا بها كل القرى.. على الضفتين.. يخاطبان الجماهير.. ويسعدهما الهتاف الظريف.. أي والله نعم.. قلناها نعم.. ولما توغل الرفاس.. في مناطق السكوت والمحس.. قال الدكتور محيي الدين صابر.. ياجماعة أنا (كُوفَرْتَ) من كثرة الخطابة وبالعربي الفصيح.. وأخذ يخاطب الناس بالرطانة.. وقد استهوى ذلك أهل المنطقة وتجاوبوا معه تجاوباً كبيراً.. وكان يرافق الدكتور.. في غرفته رجل يناهز السبعين من العمر وكان يحترمه ويجلس عند قدميه.. ولا يشعل سيجارته أو غليونه.. في حضرته.. وعرفت أنه الرجل الذي رعى الدكتور.. عندما كان طالباً.. وساعده حتى أصبح.. علماً من أعلام السودان.. وذات ليلة.. استدعاني الدكتور.. ومعه المحافظ وهما يجلسان على سطح الرفاس.. وقالا لي.. لماذا اعتقلت سبعة أشخاص فقط.. والمنطقة بها العديد من الشيوعيين.. وأن هناك ستين شخصاً أبرقوا مهنئين قادة الانقلاب.. وحاولت أن أبرر موقفي ولكنهما (استهونا) أمري كضابط صغير (نجمتين).. ولم يستمعا إليّ، وأمراني فور عودتي إلى دنقلا.. أن أقوم باعتقال كل من أيد.. حركة يوليو.. وأضاف الدكتور من عندو قائمة أخرى.. كان معظمهم زملاء دراسة لي في وادي سيدنا.. فقلت للسيدين.. الوزير والمحافظ.. إن العمل الأمني عمل تخصصي.. وأنا المتخصص الوحيد.. ومن الأفضل تركي.. أعمل بالتنسيق مع رئاسة الشرطة في عطبرة.. فقال لي المحافظ أنا رئيس لجنة الأمن.. وعليك أن تنفذ الأمر.. وإنت ساكت.. مفهوم؟! فغضبت جداً وقلت لهما.. إذن فلنبدأ العمل من هذه الباخرة.. وأرجو أن يسمح لي السيد الوزير باعتقال الرجل الذي يقيم معه في غرفته!! فاستشاط الدكتور غضباً وقال.. هي حصلت؟
فقلت له.. هذا الرجل.. أرسل برقيات عديدة تأييداً لقادة الانقلاب.. وخص كل واحد منهم ببرقية.. ويمكنك أن تسأله.. فأسرع بالدخول إلى غرفته.. وعاد بعد برهة.. ووضع يده على كتفي وقال لي.. يا إبني إنت فعلاً عارف شغلك.. أمشي اشتغل بطريقتك!!
وعندما وصلنا إلى دلقو.. استضافنا الدكتور محيي الدين في منزله.. وهيأ لنا مكاناً نستريح ونأكل ونشرب فيه.. وانسحب من مجلسنا.. وغاب قرابة الساعتين وتساءل الجميع عنه.. ولكني كنت أعلم أين هو.. فالدكتور محيي الدين صابر هو ابن خالة المقدم.. أبو شيبة وكلاهما وحيد أمه.. وأبو شيبة كما يقول البعض.. هو المنفذ الفعلي لانقلاب مايو.. ثم هو المنفذ لإنقلاب هاشم العطا.. رغم الصداقة القوية التي كانت تربطه بالنميري.. وأنه هو الذي أخرج عبد الخالق محجوب من السجن.. وخبأه في القصر الجمهوري... وقد كان وقتها مسؤولاً عن الحرس الجمهوري.. وشملته موجة الإعدامات.. ولم تشفع له صداقة النميري.. ولا وساطة ابن خالته محيي الدين صابر!!
إذن ذهب محيي الدين.. ليعزي خالته وأهله.. في ابنهم أبو شيبة الذي أعدم.. ودخل المنزل وكان الناس جميعاً جلوساً.. لم يتحرك أحد لاستقباله أو رفع الفاتحة معه.. وظل يتحدث ويتحدث مبرراً.. عجزه.. عن إنقاذ ابن خالته.. الذي جاء به إلى الوزارة كما يقول البعض.. ولما لم يجد.. أي تجاوب من أهله.. انسحب بهدوء وخرج وعاد ليواصل جلسته معنا ويتناول العشاء.. وخاطبني فجأة.. وقال برضك وراي وراي.. أنا شفت عساكرك.. هناك.. قريب من بيت أبو شيبة.. أنا كنت عاوز الحكاية سرية خالص.. فقلت له.. إنت دكتور.. ووزير.. وأنا مسؤول عن حمايتك!!.. فقال لي اللي حصل حصل.. بس ما ترفعش الموضوع ده إلى الجهات العليا.. فوعدته بذلك ولكن الجهات العليا.. هي التي نبهتنا لما قمنا به.. والشغل شغل!!
واستمرت رحلة الدكتور محيي الدين والمحافظ سعد عوض.. وعند اللقاء الجماهيري الحاشد هناك.. قال الدكتور.. ما فيش حد.. يخطب معاي شويه.. أنا تعبت خالص.. فقلت له.. أنا.. ممكن أخطب.. فأخرج نظارته.. ونظر إليَّ مندهشاً.. إنت بتتكلم جد؟! فقلت نعم.. وتقدمت نحو المايكرفون.. وتحدثت ساعة من الزمن.. أثارت الجماهير وقاطعها الناس بالهتافات والتصفيق.. ولما انتهيت.. صفق الدكتور بنفسه طويلاً.. وهنأني.. وقال لي.. أنا عاوزك في الخرطوم ضروري.. أنا محتاج لواحد زيك.. أنا حأعينك مدير لمكتبي في درجة ما تحلمش بيها.. وذهب الرجل إلى الخرطوم.. ولم ألحق به.. لأن تقريري الشامل.. عن زيارته.. كان قد سبقه مفصلاً وبالحتة!!
أما الأستاذ حسن عبد الماجد.. وبعد ترقيته الشهيرة.. اختفى ولم يعد إلى دنقلا.. وذات صباح.. رن جرس التلفون.. في مكتب المساحة.. وهو المكتب الذي تعودنا أن نلتقي فيه جميعاً لتناول طعام الإفطار.. المكون عادة من فول السليم العجيب.. وكبده الإبل التي كان السادة الجزارون.. «يبروننا» بها.. وجاءت ساعة الاتصال التلفوني.. متزامنة مع لحظات الفطور.. وانبرى أحد الموظفين للرد على التلفون.. وفجأة انتفض كمن لدغته عقرب.. ورمى السماعة.. وجاءنا.. وهو يلهث.. ألحقوا.. حسن عبد الماجد على الخط.. فأسرعت وأخذت السماعة.. وبادرته بالتحية.. والسؤال عن أحواله.. وفهمت منه أنه يرغب في تسليم نفسه.. فقلت له.. يا صديقي.. لو سلمت نفسك في دنقلا.. فستكون أهم المعتقلين.. ولكن ترتيبك في الخرطوم سيكون في أدنى قائمة «فطاحلة الخرطوم».. ويبدو أن الأستاذ حسن.. قد قلب الأمور واختار الوسط خير الأمور.. وسلم نفسه في مدينة عطبرة.. وعلمت بذلك.. وعزمت في دواخلي.. أن أقدم له كل المساعدة الممكنة.. سيما وقد تقرر نقلي إلى عطبرة.. ولكن لما وصلت عطبرة.. علمت.. أن الرجل تم تحويله إلى الخرطوم.. فاعتصرني الألم وأشفقت عليه.. من هول ما كان يجري في الخرطوم.. من إعدامات!!
وذات يوم.. وصل رئاسة شرطة الشمالية مظروف أبيض كبير عليه رسم شعار الجمهورية.. معنون لشخصي «شخصياً» فارتعدتُ وأصابني الخوف.. واستعرضتُ سنوات عملي الماضية.. وأنا أحادث نفسي.. يا ربي أنا سويت شنو؟! وهل هي شكوى أخرى ضدي.. كالتي جاءت للتحقيق معي بأمر الرقيب العام.. وفحواها «يوجد في مدينة دنقلا.. ضابط اسمه محيي الدين.. يأكل الخرفان كالأحزاب البائدة.. ويشرب المكيفات غير اللازمة»؟!
على كل حال فتحت المظروف.. وقرأت بداخله تكليفاً.. من مدير الأمن العام.. بكتابة تقرير.. عن الأستاذ المحامي حسن عبد الماجد.. فأخذت نفساً عميقاً.. وارتحت.. واعتبرتها فرصة.. لتقديم المساعدة لصديق عزيز.. وفكرت ملياً.. حتى اهتديت.. وقمت بمراجعة كل التقارير الأمنية التي كنت أرسلها من دنقلا، وعثرت لحسن الحظ على التقريرين اللذين سبق وأن أرسلتهما عن نشاط الأستاذ حسن وقمت بإرسالهما لإدارة الأمن العام.. لأنهما كانا يصبان في مصلحته.. وقد ساعدا على إطلاق سراحه.. ومع ذلك فإن الرجل كان عاتباً عليّ .. لأني كتبت ما كتبت.. من وراء ظهره!!


نقلاً عن الوطن
ميرغني ابراهيم
ميرغني ابراهيم
المشرف العام

المشرف العام

عدد الرسائل : 4016
العمر : 63
الموقع : السعودية
المهنة : طبيب
الهواية : كرة القدم
تاريخ التسجيل : 04/11/2007

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

كلام ساكت- أيام نميري Empty رد: كلام ساكت- أيام نميري

مُساهمة من طرف ميرغني ابراهيم الجمعة مايو 21, 2010 3:15 pm

9مفقود

كلام ساكت
أيـــام النميــري (10)


محيى الدين محمد علي



كانت رئاسة الشرطة في عطبرة قد أصدرت قراراً بنقلي من دنقلا .. إلى عطبرة .. لإنشاء وتأسيس قسم لحركة المرور .. يضطلع بدور العمل المروري ووضع خطة العمل .. لمقابلة مشروع .. تحويل حركة المرور من اليسار إلى اليمين .. ولكن وبعد وقوع إنقلاب هاشم العطا 19 يوليو 1971م .. تم استعجالي لتنفيذ أمر النقل .. ولما وصلت عطبرة .. علمت بأن أمر نقلي قد عدل .. للعمل بقسم المباحث والأمن فتذمرت وأبديت عدم رغبتي في عمل المباحث والأمن .. ولكني أجبرت قهراً وبالتعليمات .. وهذا حال القوات النظامية كلها .. التي يسير فيها دولاب العمل بالأوامر الهادئة .. وفي حال العصلجة والتراخي أو الإهمال .. فإن «ظرابين» الرئيس تظهر وتتجلى بوضوح فيلجأ إلى المحطة القصوى .. ويسري حكم القوي على الضعيف!!
المهم .. جلست إلى مكتبي مهزوماً مدحوراً عن يميني المساعد عوض حسين .. وعن يساري الرقيب أول كبير .. ومن أمامي .. الطابعان على الآلة الكاتب.. العريف عبدالله فضل المولى.. والشرطي غاندي.. ومن حولنا جميعاً.. رجال أفذاذ.. ناشطون في مجال العمل الميداني.. وعلى رأسهم العريف فضل عبدالله فضل.. والذي بلغ بكفاءته إلى رتبة العميد شرطة.. وآخرون يضيق المجال عن ذكرهم.. وقد تبدو ملامحهم في صورة فوتغرافية.. أنوي نشرها مصاحبة لهذا المقال.. وبدأت في إجراءات التسليم والتسلم بيني وبين الصديق العميد «م» حالياً بشير حسن عبدالقادر.. الذي زودني بتفاصيل كثيرة عن طبيعة العمل بالقسم.. وعرفني.. بشخوص من كانوا حولي والذين لم أتشرف بمعرفتهم من قبل.. وبعد أن تم ذلك.. عكفت على قراءة التقارير وموجهات العمل والأوامر والمنشورات الصادرة.. واستوعبت الكثير.. ولكني كما يقولون «رأسي انشطب» لما علمت.. بأن عدد المعتقلين بعد الإنقلاب الشيوعي واندحاره.. قد بلغ أكثر من الف معتقل.. تم تجميعهم جميعاً في عطبرة إلا أن لجنة الأمن بادرت بإطلاق.. قرابة الثلث منهم.. شاملاً بعض النساء.. وصغار السن.. ومن حشروهم ضمن المعتقلين زوراً وبهتاناً وتشفياً.. واستغلالاً لظروف «الجوطة».. التي جعلت بعض المايويين.. ينصبون أنفسهم حماة لمايو... ولكن ومع كل ذلك.. فإن عدد المعتقلين.. القابعين في معسكر ضخم.. تحت إدارة سلاح المدفعية.. كان ثمانمائة معتقل وأكثر.. وكنت مطالباً باستجواب.. كل هذا الكم الهائل من العباد.. نفراً نفراً.. ومن ثم إعداد تقرير مستوفي عن كل فرد... موضحاً أصله وفصله وسيرته الذاتية.. وملابسات اعتقاله والجهة التي اعتقلته.. وتقريرها عنه ومن ثم ملخص أقواله واستجوابه.. وفيشه وبصماته مدعوماً.. بصورة فوتوغرافية.. وجهاً.. وجنباً وأية علامات مميزة.. كالشلوخ والفصود.. وغيرها من.. طعنة سكين.. أو لطشة عكاز أو خبطة شامة.. كما جاء في مسرحية شاهد ما شفش حاجة!!
توكلت على الحي الدائم... وبدأت في اتخاذ الإجراءات... والتدابير.. لتنفيذ المطلوب بدقة وعلى عجل.. وكلمات.. العميد.. يحيى حسين على نور.. يتردد صداها في أذني.. موش عاوز أشوفك قدامي تاني.. ولو حسيت بأي تقصير حأملص دبابيرك!!.. ولم نقطع شوطاً يذكر في العمل.. حتى حلّت علينا مصيبتان جديدتان... وكانت الأولى عبارة عن أورنيك ضخم.. مكون من ثلاثة عشر صفحة.. تحتوي على.. خمسة عشر بنداً.. تصر إدارة الأمن العام على ملئها من ثلاث نسخ.. عن كل معتقل.. والمصيبة الثانية.. كانت هي تصنيف كل المعتقلين حسب خطورتهم على أمن الدولة.. كمجموعة أولى.. ومجموعة ثانية ومجموعة ثالثة.. وهي التي ستبدأ لجنة أمن المديرية.. في الإطلاع عليها.. واتخاذ القرار بشأن المذكورين فيها.. باطلاق السراح أو الإبقاء في المعتقل.. أو أحياناً.. بترقية المعتقل إلى المجموعة الثانية أو الأولى!!
لقد حزنت لهذه المصيبة الثانية جداً لأنها تحمّلني مسؤولية أكبر من رتبتي وترهن مصائر هؤلاء جميعاً بكلمة مني.. وتدخلني دون أن أشعر في ورطة الاضرار بالناس..!! وفكرت في الأمر ملياً.. ووصلت إلى قناعة بأن الأمر أكبر وأصعب مني.. وأن الأوامر.. والتعليمات لن تجدي نفعاً وأنه لا مناص البتة من استمالة.. الصف والجنود الذين يعملون معي بالمكتب والميدان وعددهم لا يتجاوز الخمسة عشر.. رجلاً.. وتحفيزهم على التعاون والعمل معي بإخلاص وتفانٍ وكأسرة واحدة.. ونجحت في ذلك نجاحاً بعيداً.. لأن الرجال كانوا في الأصل أوفياء ومخلصين للمهنة.. وبدأنا أول ما بدأنا.. في إستدعاء كل من اعتقل أو أعد تقريراً عن أي معتقل واستجوبناه على القسم.. عن مضمون تقريره وملابسات الإعتقال.. وتنكر الكثيرون لتقاريرهم.. أو عدّلوا فيها.. وطلع بعضها «فشنك» ساكت.. وعلى ضوء ذلك أطلق سراح.. أكثر من ثلث المعتقلين وانزاح بذلك كابوس كان يجسم على صدورنا بسبب تأنيب الضمير.. والإحساس بالمشاركة في عمل ظالم !!.. وتفرغنا بعد ذلك في إكمال الإجراءات بالنسبة لبقية المعتقلين.. وملء الأورنيك المطلوبة عنهم.. ومن ثم تصنيفهم.. في إحدى الدرجات الثلاث.. بحسب درجة نشاطهم.. وخطورتهم.. وموقعهم داخل الحزب الشيوعي.. كأعضاء اللجنة المركزية.. أو الكادر السري.. أو العضو العادي.. أو ذلك الميم نون.. أي المغفل النافع.. ومن ثم يأتي الناشطون.. ضد النظام المايوي.. من الاحزاب والفئات الأخرى.. والنقابات على وجه الخصوص!!
لقد كان هاجسنا جميعاً ونحن نعمل ليلاً ونهاراً.. لإنجاز العمل.. هو أن نبرز الحقائق والمعلومات الصحيحة القاطعة حتى لا يبقى بالحجز معتقل بريء أو حتى نصف بريء.. وكان أداء القسم على المصحف الشريف.. فيصلاً حاسماً بين ما يقال ونما لعلمنا.. وأفادت مصادرنا.. وبين تأكد لنا.. وثبت بما لا يدع مجالاً للشك.. ولكن ومع ذلك فإن بعض الشكوك كانت تساورني حول العديد من المعتقلين العطبراويين ... وهم أغلبية .. ولكن شهد شاهد من أهلهم وهو المسؤول عن أُستديو الشرطة.. والذي تستعين به على تصوير (ضيوفها الأجلاء) ويبدو أن الرجل كان شرطياً أحمراً.. أو على الأقل (مكجن) مايو والنميري.. .. فخرج بالكاميرا.. وصوّر مظاهرات الشيوعيين ومسيراتهم.. إبتهاجاً بحركة 19 يوليو التصحيحية .. تصويراً شاملاً دقيقاً أظهر كل شىء بوضوح تام.. وكان يبدو خائفاً من فعله.. بعد عودة النميري فطلبت منه.. أن يعد (اليوم) بكل الصور التي التقطها ببراعة.. وطلبت منه تكبير بعضها لأقصى مقاس ممكن وفعل الرجل .. وكانت المفاجأة ظهور كل المعتقلين أمامي بصورهم.. يهتفون .. ويلوحون بالرايات الحمراء وهم هناك.. داخل المعتقل .. يتوسدون الثرى ويلتحفون السماء !!
وأضيفت .. بذلك صورة فوتغرافية بملف كل معتقل .. تقف بينة قاطعة على مشاركته الفعلية في تأييد الإنقلاب.. ومن الطرائف.. أن أحد المعتقلين.. كان رجلاً ضخم الجثة بصورة مبالغة .. إدعى بأن إعتقاله غير صحيح لأنه موش شيوعي.. ولم يقم بأي نشاط معادي يستدعي إعتقاله...
والصورة الوحيدة التي عثرنا عليها.. كانت لقطة من الخلف.. فأنكرها أيضاً وقال ده .. ما .. أنا .. وطالب بالمثول أمام لجنة أمن المديرية.. وسقناه اليها.. وأمام اللجنة.. طلب منه أن يعمل خلف دور.. ففعل الرجل.. وعدّ أعضاء اللجنة ... عدد (النخلات) في رقبته.. فكان عددها أربعة عشر (نخلة) كما عدّوا الطبقات والحزّات فيها.. فكان عددها أربع طبقات.. مع طبقة خامسة تحت التكوين وأذنين ضغيرين .. غاطستين في اللحم.. ومبادى صلعة في مؤخرة الرأس.. مضافاً اليها حجمه الهائل .. الذي حجب نصف.. المظاهرة التي كان يواجهها.. وهو يهتف .. ويلوح بالبيرق الأحمر!!.. فقال رئيس اللجنة.. يا أخونا ما في داعي للبطبطة او البتبتة.. دي صورتك ما في كلام!! قال الرجل يا جماعة يخلق من الشبه أربعين !! فقال رئيس اللجنة يا أخي أربعين زيك.. معناها مجاعة!! وعلق آخر .. يا سيد يخلق من الشبه أربعين قبلناها .. لكين ما بالطريقة دي.. أربعطاشر نخلة وأربع طبقات ..؟! ده مستحيل!!
لقد أنجزنا العمل المطلوب.. بفضل تكاتفنا وإحساسنا بالمسؤولية.. سيما وقد كنا جميعاً مايويين على السكين.. من تلقاء أنفسنا.. لا نبتغي من وراء ذلك جزاءً ولا شكورا.. وقد دفعني هذا الحماس لمايو.. والغيرة عليها .. أن قطعت من رأسي بنداً إضافياً لبنود الأرنيك الخمسة عشر الواجب ملئها عن كل معتقل وكان في شكل سؤال.. يجيب عليه المعتقل بخط يده.. ويمهره بتوقيعه ونص السؤال هو.. هل نعتقد أن حركة 19 يوليو تخريبية أم تصحيحية؟! وأسقط في أيدي الكثيرين.. ولكن كان لكل إجابة معناها ومغزاها .. وقد وفرت أنموذجاً لخط المعتقل وتوقيعه على الأقل!! ومن الطريف أن ساقتني قدماي بعد ربع قرن الى مكتب ما.. ظل المسؤول فيه يتفحصني من رأسي الى أخمص قدمي.. ويقوم بالإجراءات المطلوبة.. ولما سلمني أوراقي .. قال لي .. يا جنابو ..عليك الله.. كان في داعي لسؤالك.. حركة يوليو.. تصحيحية أم تخريبية؟! علىّ الطلاق سؤالك ده حارقني لي الليلة!! ثم داعبني قائلاً هسع مايو رأيك فيها شنو؟! فقلت له .. زمان شىء وهسع شىء ثاني خالص..
لقد أنجزنا المهمة بكفاءة وسلاسة واستطعنا أن نضع بين يدي الوزارة وإدارة الأمن العام.. ولجنة أمن المديرية كافة البيانات.. مرتبة ومنظمة .. وبلغتنا الإشادات والثناءات من كل الجهات.. ومن السيد العميد يحيى حسين علي نور.. شخصياً.. والذي عبر عن ذلك كتابة.. ولم يملص «دبابيرنا»
وهدأ دولاب العمل ـ وظلت لجنة أمن المديرية .. تجتمع.. كل أسبوع وتأمر بإطلاق سراح بعض المعتقلين بناءً على التقرير الشامل الذي أعددناه او على ضوء .. أمور أُخرى .. خافية علينا .. وظل عدد المعتقلين يتناقص وخف ضغط العمل.. وأتجهنا لممارسة العمل العادي في حفظ الأمن والإستقرار وفي هذه الأثناء.. جاءنا من إدارة الأمن العام بالخرطوم النقيب أحمد موسى يحمل معلومات .. بوجود وكر شيوعي .. في مدينة عطبرة .. وتعاونت معه قوة الأمن والمباحث بالمدينة.. وجرت العديد من (التفاتيش) والمطاردات .. والبحث عن الوكر.. بغمر الأماكن المشبوهة بالمياه.. لأنها تدل على المواقع المحفورة حديثاً.. واستعمال السيخ في طعن الأرض.. حتى يتبين الموقع الهش من الصلب .. ونجحنا في ضبط أكبر وكر شيوعي في عطبرة وتم تحفيزنا جميعاً بمائة جنيه فقط لا غير.. فقال أحد ظرفاء التيم .. تأبى القروش إذا إجتمعن تكسراً وإذا إفترقن تكسرت آحاداً.. وفهم الجميع المطلوب.. وتحول الحافز لحفل عشاء (كارب) لا زالت لحظاته محفورة في الخاطر.. غنى فيها الجميع وصفقوا وعرضوا وسادها جو من المرح والنكات وطرائف المعتقلين ونوادرهم وإبداعاتهم وأشعارهم والكتابات التي ضبطت معهم وهم رهن الإعتقال .. ولا زلت أذكر أبياتاً عامية أعجبني منها.. أن لم تخني الذاكرة.. وقد مرت عليها قرابة أربعة عقود.. وأنا أكتب ما كتبت .. وما سأكتب بإذن الله (روسي) من الذاكرة.. وهي مفكرتي الوحيدة.. وهي ذاكرة غريبة.. تنسى كل شىء.. ولكنها تحتفظ بصور فوتغرافية للأحداث والمواقف في قاعها.. ونقول هذه الأبيات العامية على ذمة الذاكرة ..
يا نمر الورق كم مرة حذرناك
ما تسمع حكاوي الإفك والتلفيق
وما تبيع القضية.. بلاش
وتخون الزميل.. ورفيق
لكين كيف تحس .. تسمع
أضان خدرانة بالتصفيق!!
ولما كان المعتقلون .. يأملون في الجماهير وأن الشارع السوداني سيثور ويحطم المعتقلات ويخرجهم منها محمولين على الأعناق.. فقد إستطاع أحد المعتقلين وكان.. حارس مرمى شهير.. لفريق عاصمي مشهور .. أن يتسلق سور السجن ويطل على الشارع .. فرأى شيخاً يعرفه.. فناداه بإسمه وقال .. الشارع كيف يا عم حسن؟!
فقال الرجل .. لا حول ولا قوة إلا بالله خلاص الجماعة جننوك يا ولدي الشارع ياهو.. قدامك .. ظلط في زفت!!


«نواصل»
ميرغني ابراهيم
ميرغني ابراهيم
المشرف العام

المشرف العام

عدد الرسائل : 4016
العمر : 63
الموقع : السعودية
المهنة : طبيب
الهواية : كرة القدم
تاريخ التسجيل : 04/11/2007

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

كلام ساكت- أيام نميري Empty رد: كلام ساكت- أيام نميري

مُساهمة من طرف ميرغني ابراهيم الجمعة مايو 21, 2010 3:16 pm


كلام ساكت
أيام النميري «11»


لواء «م»/ محيى الدين محمد علي



ذكرت سابقاً .. بأن عدد المعتقلين الذين تم التحفظ عليهم .. داخل معسكر ضخم تحت إشراف وإدارة سلاح المدفعية بعطبرة.. كان يتجاوز الثمانمائة معتقل.. معظمهم من موظفي وعمال السكة الحديد.. ومن المعلمين... وعمال وموظفي المصالح الأخرى.. وقليل من عامة الناس.. وكان لزاماً عليَّ بالتعاون مع أسرة مكتب الأمن والمباحث.. أن أقوم باستجوابهم جميعاً وعمل ملف بكل التفاصيل عن كل معتقل، ومن ثم تصنيفهم إلى مجموعة أولى.. ثم ثانية.. وأخيرة ثالثة.. وهم الأقل خطورة... وقد أدينا هذه المهمة.. بكل أخصلاص وتفانٍ... نبدأ نشاطنا صباحاً.. ويستمر حتى منتصف الليل.. وقد صرعتني الملاريا.. ثلاث مرات.. أثناء هذا العمل الاستثنائي المرهق... ولكن.. ومع قساوة هذا العمل.. فإنه لم يخلُ البتة.. من لحظات الفرح.. ولحظات الضحك والابتسام.. والمواقف الإنسانية.. فالفرح كان يغشانا جميعاً.. كلما..صدر كشف من لجنة أمن المديرية.. بإطلاق سراح مجموعة من المعتقلين.. فنحمله على جناح السرعة.. لإدارة المعتقل.. ونحيا تلك اللحظات المؤثرة..... والرفاق يودعون الرفاق.. ويرتمون في صدور أهلهم وهم يجأرون بالبكاء ودموع الفرح.. ويحتضنون أبناءهم وبناتهم.. ويمشون إلى بيوتهم.. زرافاتٍ ووحدانا.. ولا ينسون أبداً.. أن يخصونا.. بعناق الوداع... فقد كنا.. لهم أصدقاء.. ناصروهم على محنتهم ولم يظلموهم..!!
أما الطرائف ولحظات الضحك والابتسام فقد كانت.. هي زادنا.. ودافعنا على العمل.. لأن كل المعتقلين الذين كنا نتعامل معهم صباحاً.. ومساءً... كانوا من الصفوة المسلحين.. بأفكار اليسار.. وكانوا على درجة من الثقافة والوعي... ويتميزون بالذكاء... والسخرية والملحة والطرفة.. وحتى جماعة الميم نون.. فهم على غفلتهم.. أصحاب شخصيات خاصة.. وقدرات وطاقات نادرة.. لا أحسب أن الحزب الشيوعي السوداني.. كان في مقدوره الاستغناء عنها..!!.. ومن الطرائف التي يحكيها الشيوعيون.. أن.. رفيقاً من جماعة (الميم نون).. لم يكن لديه أي مؤهل تعليمي.. وظل يطالب قيادة الحزب لإرساله في بعثة دراسية.. ويلح على ذلك.. فتم إرساله.. إلى روسيا.. في دورة تدريبية.. حسب قدرته... ولما عاد إلى السودان.. سألوه عن الشيوعية ومزاياها فقال لهم.. ده موضوع طويل.. لكن باختصار أنحنا هنا في السودان.. واقفين صفوف علشان نلقى لوح ثلج.. لكين في موسكو.. تقوم من نومك تلقى ثلجك راجيك في الشباك.. وما عليك إلا تخرط ساي!!
إن طرائف الرفاق المعتقلين... التي أضحكونا بها.. أو ضحكوا بها علينا.. لا تحصى ولا تعد.. وبعضها يصعب سرده.. ولكني... أرغب في سرد.. بعض المواقف.. لرجال وجدتهم داخل المعتقل.. أحدهم.. كنت قد تعرفت عليه في جوبا.. والثاني.. عرفته في دنقلا. أما الأخير.. فكان من أبناء.. أرقو وزميل دراسة حتى المرحلة الثانوية.. فلما كنت.. استدعي المعتقلين من معسكر الاعتقال لاستجوابهم وإكمال الإجراءات المطلوبة بشأنهم... شهق الرجل عندما رآني واندفع نحوي يضمني.. ويعانقي، وسرعان ما ربطتُ بين اسمه.. وهيئته وتذكرت.. أيامنا معاً في مدينة جوبا.. فسألته عن سر اعتقاله.. والرجل حسب علمي.. لا علاقة له.. بمايو.. ولا.. بيوليو.. فقال لي.. إن علاقته كانت سيئة جداً بأحد ضباط الشرطة.. فتربص به. ولما تيقين بأنه قد أرسل برقية تهنئة لرجل من الذين عينتهم حركة «19 يوليو».. في منصب حساس ومهم.. استغل الضابط هذا الأمر، وقال باعتقاله.. باعتبار أن البرقية تأييد ودعم للانقلاب الشيوعي.. وأوضح لي الصديق المعتقل.. بأنه أرسل برقية التهنئة بصفة (أخوية).. لأن الرجل كان صديقه. وقد عملا معاً في شبابهما في مجالات أخرى.. وقد سره وأسعده وأثلج صدره.. أن يصل إلى المرتبة العليا التي أختير لها.. وعلشان كد بس أبرقه مهنئاً!!.
وطالبني بالمساعدة لشرح موقفه ورفع الظلم عنه.. وإطلاق سراحه.. وبالفعل رفعت توصية.. إلى لجنة الأمن عبر القنوات طبعاً.. وذكرت بأن برقيته لا تحمل أي بعد سياسي يمكن أن يُحسب عليه.. وقامت اللجنة باستدعائه واستمعت إليه.. وتوقف أحد اعضائها عند جملة (في هذا المنعطف الخطير من تاريخ أمتنا).. وقال له ده شنو؟ فقال المعتقل (دي ثقالة مني ساكت)!!
ضحكت اللجنة.. وأمرت بإطلاق سراحه!!. أما الرجل الذي تعرفت عليه في دنقلا.. فهو نفس الرجل الذي تحدثت عنه من قبل.. صاحب العربة اللاندروفر.. حزب الأمة رمز القوة والذي أكرمنا بخروف وساعدنا على مهمتنا في اعتقال مجموعة من وكلاء الإمام الهادي. وكان لا يعلم بأنه على رأسها.. ولكننا.. اعتقلناه على الورق وأطلقنا سراحه.. وهو لا يعلم برضو.. فأحسنت استقباله وصافحته وأجلسته وأكرمته بكوب شاي.. وسألته عن علاقة وكيل الإمام.. بالشوعية.. فقال لي أنا ما شيوعي.. ولكني أكره النميري من قبال يبقى رئيس.. وهو من أهلنا.. ولما سمعت بالانقلاب.. خرجت بعربتي أهتف ضد النميري.. وفقبضوني وأرسلوني إلى عطبرة.. وبعد إكمال الإجراءات أعدته إلى معسكر الاعتقال، وهو يردد التجي من السماء.. تحملها الواطا..!!
أما زميل الدراسة وابن منطقتي.. فقد كنت أعلم باعتقاله قبل ان أصل إلى عطبرة.. وقد اتصل بي أهله عدة مرات سائلين عن ظروف اعتقاله.. وإمكانية إطلاق سراحه.. فذهبت إليه في المعتقل واستعمت منه حديثاً طريفاً.. فالرجل بالإضافة لمهنته كمحاسب، فهو خطاط درجة أولى (يسترزق) من فنه.. ووجد فيه الشيوعيون ضالتهم.. فجعلوا كل شعاراتهم ولافتاتهم المكتوبة (حصرياً) على (نصر الدين).. وكان الرجل إذا خطَّ شعاراً أو لافتة.. مهرها باسمه.. من قبيل الدعاية والإعلان عن فنه... وحسبت أجهزة الأمن أن مسلكه وإصراره على كتابة اسمه.. مغالاة.. وتطرفاً وتبجحاً بشيوعيته.. ومما زاد الطين بلة وأزم موقفه.. أنه كان يقف في قلب المظاهرات.. ضاحكاً يستمتع بلافتاته الحمراء.. التي غطت الساحة.. واسمه يتراقص في أسفل كل لافتة!!
لم تكن البينات.. ضد.. وكيل الإمام.. وزميل الدراسة.. تمكنني.. من التعجيل بمخاطبة لجنة الأمن لإطلاق سراحهما، وقد تفهما ذلك.. ولكنني ظللت أزورهما.. بانتظام.. وأقدم لهما المساعدة الممكنة من سجائر وصعوط.. وغيرها.. حتى حل عيد الأضحى المبارك.. فأسرعت بكتابة خطاب لقائد المدفعية موضحاً.. إن إدارة الأمن العام.. تطلب معلومات مهمة جداً عن المعتقلين - وكيل الإمام وزميل الدراسة - وطالبت بأخذهما معي إلى مكاتب الأمن والمباحث.. لإجراء اللازم.. ووافق القائد.. وهو مندهش لإخلاصي في العمل.. قبل صلاة العيد!!.
فاستلمت الرجلين وذهبت للرئاسة (للتمويه) وأنزلت الحرس وجئت بهما إلى منزلي.. حيث.. حضرا معي نحر أضحيتي.. فأكلا منها.. المرارة والشواءات وظلا معي حتى وجبة الغداء.. وأحتسيا من الشربوت المعتق.. ثم اعدتهما إلى معسكر الاعتقال.. قبل غروب الشمس!!
ومن الطرائف ان أحد المعتقلين.. وهو مزارع بسيط.. محدود الفهم. قد تم استغلاله بواسطة بعض الشباب المعادين لمايو.. فدفعوا له بعض المال وطالبوه.. أن يطوف بالقرى.. ويذيع على الناس بأن النميري شالوه... وفعل الرجل.. وكان يردد بأعلى صوت.. أيها المواطنون.. النميري راحت في ستين داهية.. ويضيف الرجل.. أولاد الآبالسة غشوني.. لحد.. ما.. رحت.. أنا ذاتي في ألف داهية!!
لقد ظلت لجنة أمن المديرية.. تحرص كل الحرص على متابعة موقف المعتقلين ومراجعة موقفهم.. والنظر في حالاتهم واطلاق سراح بعضهم.. حتى تقلص عددهم إلى الثلث تقريباً.. فأخرجوا من معسكر الاعتقال.. وتم التحفظ عليهم... في سجن عطبرة.. والدامر.. وأصبح اتصالنا بهم سهلاً.. وميسراً.. وقد كانت هذه المجموعة المتبقية من المعتقلين من العناصر.. المتشددة.. والتي لا تخفي عداءها للنميري وتأييدها.. لانقلاب هاشم العطا.. وانتماءها.. للحزب الشيوعي.. الجناح الموالي للراحل عبد الخالق محجوب بالتحديد.. وعلى ذلك فقد تجاوزت مدة اعتقالهم.. عاماً كاملاً... ولما حلت الذكرى الأولى لانقلاب هاشم العطا.. استنفرت قوات الشرطة كلها.. وتحوطت لوقوع أي اضطرابات أمنية.. من قبيل المظاهرات والتخريب وكتابة الشعارت على الجدران... والمنشورات..... ولكن شيئاً لم يحدث.. فطابت أنفسنا وشعرنا بالارتياح.. لأن الخطة الأمنية.. قد حققت أهدافها.. ولكن حدث ما لم نكن نتوقعه أو نحسب له حساباً.. إذ استغل الشيوعيون تجاوز ادارة السجن.. وسماحها بدخول الوجبات البلدية.. زي أم رقيقة.. والمفروكات بأنواعها فاستطاعوا أن يدسوا في قاعها مئات النفاخات أو البالونات.. وعند منتصف النهار... نفخوا هذه البالونات.. وعلقوا عليها.. هتافاتهم المعادية للنميري.. والهتاف بحياة الحزب الشيوعي ونضاله.. مكتوبة على أوراق علب السجائر.. والأوراق الأخرى ثم أطلقوها.. لتصعد إلى سماء السجن.. ثم.. تنداح في سماء المدينة مع تيارات الهواء.. لتبلغ كل مكان.. وكان مضحكاً جداً.. أن ينطلق خلفها الرجال.. لقبضها.. وقراءة مضمونها ثم طرشقتها.. وعند سؤالنا للمعتقلين عن هذا.. انكروه جميعاً.. وقالوا.. إنهم لا علم لهم بذلك.. وأن هذه البالونات لم تصعد من السجن أصلاً.. وكان ضباط السجن رجلاً لطيفاً.. فقال لهم طلعت من عندكم ولا ما طلعتش.. تاني مفروكة ما في!!
وبعد هذه الحادثة الطريفة تزايد نشاط الشيوعيين.. وكلما أصبح الصبح طفنا بمدينة عطبرة وشوارعها.. لنجد.. جدرانها وقد ازدحمت بالشعارات المعادية... وأصبح التحري في هذا الأمر.. لنعرف من فعله.. غير مفيد.. فأخذنا نبدأ صباحنا بتوزيع رجالنا وهم يحملون الفرشاة والجير الأبيض.. في جرادل... لطمس معالم الشعارات المعادية المكتوبة على جدران المنازل.. وجلبطتها أو شخبطتها.. وكله على حساب صاحب المنزل المغلوب على أمره.. وليس له في.. (النمير) ولا النفير.!!. وذات يوم دخل السيد الدكتور محي الدين صابر مدينة عطبرة فجراً في سيارة ورأى جماعتنا وهم يطمسون شعاراً يقول.. (لن ترتاح يا سفاح) وكانوا قد بدأوا في عملية الطمس مبتدئين من (الحاء) في نهاية الشعار.. فحسب انهم من الشيوعيين.. وجاء مسرعاً.. والتقى.. مدير الشرطة وقتها العميد.. عصمت معني.. وابتدره قائلاً: موش ممكن اللي بيحصل ده.. الشيوعيون يكتبون على الحيطان في وضح النهار؟! وقام السيد عصمت بشرح الأمر له.. فقهقه.. ضاحكاً.. وقال: صدق اللي قال.. كلام الليل يمحوه النهار!!.



ونواصل
ميرغني ابراهيم
ميرغني ابراهيم
المشرف العام

المشرف العام

عدد الرسائل : 4016
العمر : 63
الموقع : السعودية
المهنة : طبيب
الهواية : كرة القدم
تاريخ التسجيل : 04/11/2007

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

كلام ساكت- أيام نميري Empty رد: كلام ساكت- أيام نميري

مُساهمة من طرف ميرغني ابراهيم الجمعة مايو 21, 2010 3:17 pm

كلام ساكت
أيام النميري «12»


لواء «م»/ محيى الدين محمد علي



الشمالية .. كانت لها حكومة برأسين .. رأس في الدامر .. والأخرى في عطبرة .. وللتوضيح .. فإن الدامر .. والتي وصفها الشاعر فاجاد حين قال :
يا دامر المجذوب .. لا انت قرية
بداوتها تبدو .. ولا انت بندر ..
وده طبعاً .. قبل اربعين سنة ولا أدري ما حل بها الآن .. ولكنها كانت مع ذلك .. مقر.. حكومتها وعلى رأسها المحافظ .. صاحب السلطان والسلطات .. أما عطبرة والتي كان يمقتها البعض ويقولون عنها ـ عطبرة المقبرة ـ فهي بالقطع لم تكن كذلك .. بل كانت جوهانسبرج السودان أو مدينة الحديد والنار... وكانت مقر سلاح المدفعية .. ورئاستي شرطة .. الشمالية والسكة الحديد .. ومقر رأس الحكومة الثاني المتمثل في هيئة السكة الحديد ومديرها العام وهو صاحب المال والجاه والإمكانات والمقدرات وأحسب أن مدير عام السكة الحديد ـ زمان موش هسع ـ كان قادراً على دعم محافظ الشمالية ليستمر ويبقى .. كما كان قادراً على مناكفته وعدم التعاون معه .. ليسقط أو على الأقل ينقل .. ويحل محله محافظ .. بمواصفات (ديزل) .. بل أن مدير عام السكة الحديد .. كان من الأهمية والقوة .. بحيث يغبطه رئيسه .. وكيل وزارة النقل ويتمنى أن لو خفضت .. وظيفته إلى مدير السكة .. والدليل على ذلك أن أكثر من مدير عام .. مغضوب عليه لم يرفت أو يفصل .. ولكن Kicked up أي تم ترفيعه إلى وكيل !!.
هذان الرأسان الحكوميان .. كان لكل واحد منهما جيش من المستخدمين .. فرأس الدامر .. المحافظ .. يتربع على المئات من ضباط المجالس التنفيذين .. والإداريين والزراعيين .. والمهندسين .. والموجهين والمعلمين واضعافهم من الكتبة والباشكتبة والمحاسبين والسعاة .. والعمال .. والسواقين والميكانيكيين والمهنيين بصفة عامة وغيرهم .. والرأس العطبراوي مدير عام السكة الحديد .. يمشي ويجر من ورائه جيشاً عرمرماً .. من المهندسين .. والبرادين والخراطين والمهنيين وسائقي القطارات .. والكماسرة والمفتشين و(العطشجية) والطباخين والجنائنية.. والخفراء.. وعمال البلاط وعمال الدريسة وعمالاً.. بلا حدود.. من حلفا إلى واو ومن الضعين وحتى بورتسودان... حيث تزحف قضبان السكة الحديد.. زحف الرقطاء.. فوق الرمال.. وتنتشر بيوتها.. شبه البيضاوية.. كالقباب في كل مكان.. والتي تقاوم الحر.. والبرد والمطر والكتاحة.. واحسبها تقاوم الزلازل.. ومن لطائفها أن مغنية خواجية.. زارت السودان فأجرت معها إحدى الصحف لقاءً.. فابدت إعجابها بالسودان وأهله الطيبين.. ولكنها تحسرت على ما يجري في بلادنا.. من أمور غير مدروسة وغير منطقية.. ولا معقولة واستشهدت على ذلك بصواريخنا المنصوبة في الارياف والمدن.. والصحراء.. (عينك عينك).. وكان من الواجب اخفاءها في مواقع سرية عسكرية.. حتى لا.. يتم تدميرها بواسطة الاعداء الحاقدين.. وأحسب أن الصحفي قال لها.. دي ما صواريخ.. دي قطاطي السكة الحديد يا سجم الرماد!!.
لقد كانت هذه الجيوش الجرارة من الموظفين العاملين.. التابعين للسكة الحديد.. أو المحافظة.. في تقديري الشخصي.. أكثر من حاجة العمل ولكن ومع هذا الترهل الوظيفي.. والذي كان المسؤولين يغضون الطرف عنه.. حتى تتاح فرصة العمل لأكبر قطاع من الناس (المرضى) بالمقولة الساذجة (إن فاتك الميري.. إتمردغ في ترابه..) إلَّا أن الفساد استشرى بصورة واضحة وسط هذه المجموعات.. وصار كل فرد من الاوفياء المخلصين الذين يقدرون المسؤولية.. ويخافون الله في وطنهم وأهلهم محاط بالعشرات الذين لا يعملون أو يعملون لمصلحتهم.. أو كما قال أحدهم أُمال سموها مصلحة ليه؟!.
لقد كان من ضمن مبررات استيلاء الضباط المايويين على السلطة.. إنتشار الفساد في البر والبحر.. فجاءوا لإستئصال شأفته.. باستحداث جهاز الرقيب العام وتمكينه من العمل والتدخل بالتحقيق والمساءلة والمحسابة.. وتورطوا.. بإرتكاب قرارات التأميم.. (فدرعوا حبل الفساد في رقبتهم).. ثم اضافوا وزارة جديدة.. هي وزارة الخدمة والإصلاح الإداري.. وهي خطوة صائبة في الطريق.. ثم استلوا سيف التطهير الذي تجاوز الأشرار.. بسبب الولاء واطاح بالاطهار.. لأنهم يا عيني لا.. ولاء لهم!!.. وعلى ذكر وزارة الخدمة والإصلاح الإداري فإني لا استطيع أن اتجاوز موقفاً طريفاً حدث.. لوزيرها العالم والخبير عندما جاء إلى عطبرة.. لشأن يخص وزارته.. فلاقى مسيرة كبرى صامتة.. في مقدمتها المحافظ فمشى معهم مجاملة وهو لا يدري وجهة المسيرة أو اهدافها.. وعندما توقفت المسيرة.. تقدم المحافظ.. ليضع باقة من الزهور على قبر الجندي المجهول.. وكان السيد الوزير ساهما شارداً.. لا يهتم بما يدور حوله.. وفجأة.. تحدث حادي المسيرة.. وقال.. الوزير الثائر (فلان) يخاطب جمعكم الكريم وسلمه المايكرفون فقال الوزير: السلام عليكم ورحمة الله.. وظل بعدها صامتاً.. لا يجد ما يقوله.. لأنه موش عارف الحاصل.. واستمر الصمت برهة طويلة حتى انقذ الموقف أحد النقابيين.. فأخذ المايكرفون من يد السيد الوزير.. وقال: بعد هذه الكلمة الضافية.. يخاطبكم السيد المحافظ!!.
نعود ونقول لقد كانت مايو في بداياتها جادة في محاربة الفساد وإصلاح الحال.. وبذلت المؤسسات والمصالح والهيئات.. جهوداً مقدرة.. لتواكب جهود الحكومة.. وخلال هذه الفترة التي اعقبت الإنقلاب الشيوعي.. حتى غادرت عطبرة.. عام 1973م.. فقد شهدت ولمست كغيري من الناس تقارباً شديداً.. حدث بين (الرأسين) الخدمة.. في السكة الحديد.. والمحافظة والدليل على ذلك أنهما طلبا من رئاسة شرطة الشمالية وربما.. أيضاً من شرطة السكة الحديد.. لرفع مالديها.. من معلومات وتقارير.. تعكس أي حالة من حالات التسيب والإهمال والفساد تخدم الإتجاه الإصلاحي الذي يسعيان لتحقيقه.
ولما كانت الشرطة بحكم مسؤولياتها تراقب وترى وتسمع بعيونها وآذانها.. وعون آخرين.. فقد استطاعت.. أن ترفع ملفاً ضخماً مذهلاً بصور شتى للفساد هناك وهنا.. وقد حوى هذا الملف.. كشفاً طويلاً بالمئات من مستخدمي السكة الحديد.. الذين يتقاضون مرتباتهم وينالون علاواتهم.. وترقياتهم.. وهم ينطلقون في انحاء المدينة.. يبيعون ويشترون.. ويعملون كحلاقين.. وجزارين.. ونقاشين وحناطين.. واصحاب مطاعم ومقاهي وستات شاي ولقيمات!! وكان هناك كشف آخر مماثل.. من أتباع المحافظة.. مضافاً إليه.. اسماء العشرات من الموظفين والمعلمين على وجه الخصوص.. الذين اغتربوا ويعملون في دول الخليج وليبيا.. وغيرها ومرتباتهم يتم صرفها بانتظام لأُسرهم عن طريق التواكيل ومسائل أُخرى محزنة كالذي مات ولازال يباشر عمله.. ويحظى بالترقي كمان!!.
لقد كانت السكة الحديد.. في ذلك الوقت دار واسعة.. للمئات من الخفراء والجنائنية المفرغين للعمل في بيوت.. (الكبارات) من قيادات العمل في الهيئة وغيرها.. والمخصصين لرعاية (صواني الحركة) المتعددة.. داخل المواقع والاحياء والساحات التي تشملها امبراطورية السكة الحديد.. وتتمدد فيها قضبانها حتى تدخل البيوت.. وتحمل ساكنيها من القيادات العليا.. حتى لا يتجشموا عند المأموريات مشقة الحضور إلى المحطة.. والله اعلم.. وكان معظم هؤلاء الخفراء والجنائنية.. يسكنون بيوت المصلحة.. ويستفيدون من خدماتها الإجتماعية.. وقد تجاوزوا سن المعاش ودخلوا في ارزل العمر.. فحصرتهم الشرطة.. وأرسلت كشفاً وافياً باسمائهم لمدير عام هيئة السكة الحديد.. فقام على الفور بتسوية معاشات بعضهم على ضوء شهادات الميلاد أو تقدير العمر.. في ملفاتهم.. وإرسل أكثرهم للكشف الطبي.. لتقدير اعمارهم أو تسنينهم إن كانت لهم سنون..!.
وكان يقوم بالكشف الطبي وتقدير العمر طبيب مصري.. يعمل بمستشفى عطبرة.. وكان جاري الذي تجاوز السبعين.. عن عرضه لهذا الطبيب.. فحلق رأسه صلعة على الزيرو.. وصبغ حواجبه وشاربه وذهب للكشف وعاد وهو يردد.. المصري أذاني عديل.. المصري ما قلعني هدومي.. وقال لي: أيه يا عمي قطن الجزيرة ده؟!.. أنا لو عارفو.. بعمل كده.. كان صبغت أي حاجة.. أو على الأقل.. إتصرفت.. لكن معليش الله يأذى الأذانا!!.
لقد كانت صور الفساد التي اشرنا إليها.. هي لقطة من صورة.. ضخمة مريعة.. أحسب أن النقابات كان لها دور فيها.. لأنها أي النقابات.. كانت قوية جداً.. وبالذات نقابات عمال ومستخدمي السكة الحديد.. والتي يكون رئيسها عادة هو البعبع الذي يخيف مدير الهيئة.. وتعمل له الحكومة نفسها ألف حساب.. لأنه قادر بإشارة منه أن يدخل قاعدته في إضراب يعطل حركة النقل في البلاد.. وقوة هذه النقابات.. كانت لا تخدم إلَّا قاعدتها.. وتحسين شروط خدتها.. والدفاع عن مصالحها.. ونصرة أفرادها ظالمين أو مظلومين.. ولا أكاد أذكر موقفاً للنقابات في ذلك الوقت..
قامت فيه بدور وأضح.. يعير ويفضح ويحاسب الفاسدين والمفسدين في صفوفها أو على الأقل عدم التدخل عند محاسبتهم.. كذلك فإن النقابات بصفة عامة.. ونقابات عمال وموظفي هيئة السكة الحديد بالتحديد.. وقتها لم تكن مهنية بحتة.. ولكنها كانت منتمية لشتى الأحزاب السياسية في الساحة السودانية.. وعلى سبيل المثال.. فان النقابي محمد الحسن عبدالله الذي ترأس إتحاد نقابات عمال السكة الحديد.. كان ينتمي للإتحاد الديمقراطي وعدوه التقليدي.. الذي صرعه عدة مرات.. الراحل موسى متى.. كان من الإسلاميين.. والشيخ النقابي والبرلماني الحالي عباس الخضر.. والذي قاد العمل في أشهر واطول إضراب.. أحسب أنه كان من الإنقاذيين قبل مجئ الإنقاذ..!.
لا أود الخوض كثيراً في بحور العمل النقابي وأنا في الأصل شرطي.. كان يمكن أن يعد مارقاً وخائناً.. لو فكر سراً أو جهراً في تكوين (نقابة للشرطة).. ولكني.. أجزم بأنه لو كانت النقابات.. ساعداً وعيناً لمدير عام الهيئة وحملت معه هم تطويرها وإصلاحها وتطهيرها.. لما آلت السكة الحديد إلى ما آلت إليه الآن.. ولما توقف دبيب قضبانها عند واو والضعين قبل نصف قرن... وكأن الشاعر قد عناها.. بالضل الوقف مازاد!!.
لقد بدأت السكة الحديد حريصة على اموالها وممتلكاتها.. فظلت تدمغ اكوابها وصحونها وملاعقها وحتى ازيارها وكيزانها وكل اشيائها بختم SR ونتعامل.. بالإسلوب الأوربي.. في عملها ونومها وقيامها.. وتأكل بالشوكة والسكين وكانت (تشفق وتحن) على مستخدميها.. وتسعى ... لإعانتهم ومساعدتهم.. لأداء مهامهم بسهولة ويسر ودون عناء.. وإهتمت إهتماماً كبيراً برجالها المنتشرين في الصحاري والفيافي.. والمقيمين في (السندات) وهي المناطق التي يتوقف عندها القطار دقائق معدودات ثم يغادرها.. ويتركهم معزولين عن العالم.. لا جار.. ولا مجير ولا مدرسة ولا طبيب.. ولا أنيس إلَّا الراديو الترانسستر.. وقد سعت الإدارة في تخفيف معاناتهم.. بمدهم بالازيار الفاخرة.. والكيزان الأنيقة.. كما دعمتهم بأغنام (تغزرهم).. وتوفر لهم السنحلان واللبن لشاي الصباح والمساء.. ولما تبين للإدارة.. بأن الأغنام موش مبسوطة.. ولا تحتمل حياة العزوبية.. فقد تفتقت عبقرية السكة الحديد.. عن حل عجيب.. وبدلاً من اضافة تيس عمبلوق لأغنام كل (سندة) رأت أن تحتفظ (بتيس مركزي) واحد وهيات له عربة أو (قمرة) خاصة تليق بفخامته.. في كل قطار.. مزودة.. بالماء.. ومالذ وطاب.. من العلف.. على أن يظل في مامورية دائمة.. يزور خلالها اغنام (السندات) ليبدد وحشتها.. ويسكر ليالي الصمت فيها.. ثم يغادرها بعد أداء مهمته إلى سندة أُخرى مودعاً بمثل ما استقبل به.. من ثغاء وعلف.. ولهذا (التيس الحديدي).. ملف ضخم برئاسة السكة الحديد.. لا يستطيع أحد أن يتمالك نفسه من الضحك.. وهو يطالع ما قيل وما أرسل من برقيات بشأنه.. واخفها.. عجلوا بإرسال التيس.. لأن اغنامنا في حيص بيص.. أو التيس منذ أن جاء غير طبيعي وفي حالة صمت.. نطالب ببقائه حتى فتح الخشم !!.
ميرغني ابراهيم
ميرغني ابراهيم
المشرف العام

المشرف العام

عدد الرسائل : 4016
العمر : 63
الموقع : السعودية
المهنة : طبيب
الهواية : كرة القدم
تاريخ التسجيل : 04/11/2007

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

كلام ساكت- أيام نميري Empty رد: كلام ساكت- أيام نميري

مُساهمة من طرف ميرغني ابراهيم الجمعة مايو 21, 2010 3:17 pm


كلام ساكت

أيــــام النمـــيري (13)
لواء «م»/ محيى الدين محمد علي
منتهى آمال كل حزب شيوعي.. أن تتحقق.. ديكتاتورية الطبقة العاملة.. في كل ناحية.. ومن ثم.. وبصرخة داوية واحدة.. يا عمال العالم اتحدوا.. تتحول الكرة الأرضية إلى (أنبوبة) غاز لتعمل وفق (المنظم) الشيوعي!!
والحزب الشيوعي السوداني.. مهما اختلفنا حوله.. فهو لم يكن (أي كلام).. بل كان حزباً.. يوقره.. الاتحاد السوفيتي.. ويبني عليه آمالاً عراضاً.. في اكتساح العالم الثالث... وقد بدأ هذا الحزب نشاطه في السودان.. وفق رؤى.. قياداته المستنيرة ونشاطها الدؤوب.. المدعوم بتصورات وخطط الحزب الكبير الأم.... وخالاته في أوربا.. وآسيا.. وأمريكا اللاتينية.. وكان طبيعياً.. أن.. يولد في بلادنا من (نطفة) مستوردة ويجيء أفضل.. ترتيباً.. وتنظيماً وتنسيقاً... وأقدر.. نشاطاً.. وحركة ومناورة.. وأكثر.. توهجاً.. وحماساً وبريقاً.. وأن يتخير مدن السودان جميعاً.. ويرى في محطة عطبرة مدينة الحديد والنار والعمال.. محط آماله.. وينزل محملاً بمنشوراته على تلتوارها... ويقتحم ديارها.. ويعشش في أوكارها.. ويتسقط أخبارها وأسرارها.. ويوسوس في صدور صغارها وكبارها.. و(يُشَيِّع) أفكارها.. ويجوس في ورشها وقطارها.. ليتحكم بالنقابات في مسارها..!!.. وكانت عطبرة بذلك .. مقر أقوى نقابة للعمال في السودان.. أيا كانت قيادتها فإن أصابع الحزب الشيوعي السوداني كانت توقع أهازيجها على أوتارها!! ولولا أننا التزمنا للقارئ الكريم.. في بدايات هذا المسلسل.. أن نكتب.. فقط.. ما يسر الله لنا أن نشاهد.. أو نعيش من المواقف في أيام النيمري.. لاسترسلنا في هذا الحديث.. ولكننا نختصر ونقول.. بأن نشاط الحزب الشيوعي (الدؤوب) وسعيه الجاد.. للتغلغل في مفاصل النقابات.. قد أجج الصراع النقابي.. وجعله أكثر حيوية.. ودفع بالتوجهات السياسية التقليدية الأخرى أن تخوض معاركه.. معتمدة على أغلبيتها.. الميكانيكية الموروثة أصلاً.. وتستطيع أن تفوز.. بقيادة العمل النقابي ورئاسته.. ولكنها في كل الظروف.. كانت (تحت تحت) تنسق مع الشيوعيين وتتيح لهم فرصة المشاركة.. لأن الشيوعيين في هذا المجال.. كملح الطعام أو الفلفل... ولأن النقابة التي تقوم دون علائق معهم.. لابد.. وأن تتعب وتشقى بهم.. وهم المتمرسون.. على خلق المتاعب.. وعلى ذلك فقد ظلوا بحنكتم.. ونشاطهم السري في قلب الحركة النقابية.. يزجون بعناصرهم داخلها.. ويؤثرون على تحركاتها.. ومواقفها بصورة واضحة.. وكانت لهم طرقهم المتعددة والمتنوعة... وبعضها لطيف وطريف.. وعلى سبيل المثال... فإن أحد (المقاهي) في مدينة عطبرة.. وفي موقع استراتيجي منها كان... مكاناً متفقاً عليه.. يوجد فيه الشيوعيون بانتظام ساعات فراغهم.. يتسامرون.. ويتسلون بلعب الورق.. و(الضمنة) وغيرها ويتفاكرون في شؤونهم.. ويستعرضون نشاطهم.. وأدوارهم!! وكان في هذا المقهى (بيك أب) أو بالعربي فوتغراف.. يشغل.. الأسطوانات الغنائية.. بناءً على طلب الزبائن.. مقابل بعض المال عن كل أسطوانة... وحتى هذه استغلها الشيوعيون.. فكانوا يحضرون فجراً مع فتح المقهى.. ويضعون في يد صاحبه مبلغاً من المال.. ويقولون.. شغل لينا عشرة وردي.. وعشرة محمد الأمين.. وبذا ينتهي اليوم ولا تتاح فرصة.. حتى لعشرة بلدي..!!
كذلك فإن رواد هذا المقهى الاستراتيجي من الشيوعيين.. كانوا دائماً على أهبة الاستعداد للمشاركة.. في أي شغب.. أو تظاهرات.. تجتاج المدينة.. لا يترددون في اعتلاء أكتاف بعضهم بعض... وتقدم المظاهرة والهتاف دعماً للتي (تعجبهم).. وإفساداً.. للتي لا تروقهم.. ينحرفون بها ويتسببون في فشلها.. واستعداء الشرطة عليها.. وما أن تحل جحافل الخوذات والعصي والبمبان.. حتى ينسحبوا.. بهدوء.. ويعودوا إلى المقهى.. ولعب الورق.. والصياح.. خمسين.. يا كيشة!!
عندما جئت منقولاً إلى عطبرة.. كان النقابي محمد الحسن عبد الله.. هو رئيس نقابة عمال السكة الحديد... والرجل شايقي وبالتالي فهو ختمي.. ومن باب أولى اتحادي.. وكان يتصعد من فرعية نقابة الكماسرة.. حتى المركزية.. ورئاسة النقابة... وعلى ضوء تقارير إدارة الأمن والمباحث.. التي كنت أقوم بتلخيصها غالباً.. فإن الرجل كان متعاوناً مع النظام المايوي.. واستطاع بذلك أن يحقق مكاسب عديدة.. للعمال.. حتى انتهت دورته وأصبح من الملزم إجراء انتخابات جديدة.. لنقابة جديدة... وهي الفرصة التي ينتظرها العمال بفارغ الصبر.. للتغيير والأتيان بوجوه جديدة.. أكثر حماسة لتأتي بالمزيد من المكاسب... والجديد شديد.. كما يقولون... وأطل في المنافسة للثعلب النقابي محمد الحسن... نقابي فولاذي.... من فرعية عمال البلاط.. اسمه موسى مُتَيْ.. وهو جعلي.. إسلامي.. بل أخو مسلم عديل كده.. ويقال.. إن الرئس أزهري.. أو النميري.. لما اطلع على اسمه قرأه موسى مَتَّى.. فعلق على ذلك بقوله.. السكة الحديد.. كلها أقباط!!.. ولما كان الصراع بين الرجلين في ظاهره نقابي.. إلا أن باطنه حزبي مطعم بالشيوعي.. وأن الامتيازات التي ينالها عضو النقابة المركزية من تفرغ كامل عن العمل.. مع صرف جميع استحقاقته بالكامل.. وعليها (بوسة) كما يقول المصريون.. مضافاً إليها ما تغدقه النقابة عليه من حوافز تحيطه بها من مزايا.. وما تنشره عليه.. من إحترام... وقيمة اجتماعية.. في مدينة مثل عطبرة... ووسط هيئة معتبرة كالسكة الحديد... جعل الصراع بين المتنافسين حاداً.. ومريراً.. تكثر فيه التصريحات النارية.. والملاسنات التي تبلغ أحياناً.. حدود كشف المستور... ولا نود.. الحديث عنها.. ولكن.. محمد الحسن عبد الله.. هدد وتوعد.. موسى متي.. بالهزيمة والسقوط على البلاط!!.. فغضب موسى متي.. وأقسم قسماً غليظاً.. بأن يسقط محمد الحسن عبد الله... سقوطاً مذلاً.. يحرمه التفرغ.. والعودة إلى عمله ككمساري تنأى به القطارات شرقاً وغرباً.. وهو يرفل في (بردلوبه) الكماسرة.. وكان له ما أراد.. وأصبح موسى رئيساً لنقابة عمال السكة الحديد.. وهو معروف جداً بصلابته.. وحرصه اللا متناهي على حقوق العمال ومكتسباتهم... وكان لابد.. من أن ترتعد فرائص.. حكومة الشمالية وحكومة السكة الحديد.. وكان لابد من تململ.. النميري في الخرطوم... وانطلق موسى.. في قيادته للنقابة.. وقد (جرَّ ترس القوة).. مدعوماً بقوة المال وتأييدهم له.. وكان موسى... لا يجيد المراوغة والتراجع.. فظل مطالباً صامداً لا يتراجع (سنتي).. حتى ساءت علاقة النقابة.. بمايو جداً.. وانتهز أعداء متي.. والثعلب على وجه الخصوص هذه الظروف.. فألَّبوا النميري عليه.. وكان مفاجئاً جداً أن اتصل النميري شخصياً برئيس لجنة أمن المديرية.. المرحوم حسين محمد أحمد شرفي.. وأمره بفتح بلاغ تحت قانون أمن الدولة ضد.. رئيس ومركزية نقابة عمال السكة الحديد واعتقالهم جميعاً.. وقد سمعت السيد شرفي.. يحاور النميري تلفونياً.. ويقول له يا رئيس أدينا فرصة.. مفاوضاتنا معاهم ماشة كويس.. والبلاغات والاعتقالات قد تضر ولا تنفع.. واستمر الحوار طويلاً.. ولكن وكما علمت فإن النميري حسم الأمر وقال.. «أنا قلت أفتحوا بلاغات واقبضوهم.. وموش حتراجع من كلامي..» وقفل الخط!!.
اجتمعت لجنة أمن المديرية لساعات طوال.. وأجرت اتصالات عديدة.. لإبطال (قنبلة النميري) ولكن دون جدوى.. وكان حظي أن أُستدعيت.. عند الغروب من بيتي.. وكلفت كتابةً بفتح البلاغ ضد مركزية النقابة.. واعتقال كل أعضائها والتحري معهم توطئة لمحاكمتهم!!
لقد كلفت إبان عملي بالجنوب.. بالعديد من المأموريات الشاقة واحتمال الموت فيها وارد.. ولكن هذا التكليف كان هو الأقسى في حياتي.. لأن موسى وجماعته كانوا محط تقديري واحترامي.. فجلست على كرسي.. في منتصف رئاسة الشرطة بعطبرة ومن حولي.. عدد من رجال الأمن والمباحث نتفاكر في كيفية تنفيذ هذا الأمر الخطير.. مع أمكانياتنا الشحيحة وقوتنا المحدودة.. التي لا يمكن أن تصمد لثوانٍ معدودات أمام جحافل عمال السكة الحديد.. إن هم.. قاوموا.. البلاغ والاعتقالات... وسألت الله.. أن (يجيب العواقب سليمة)... والتفتُ إلى باب الرئاسة.. ورأيت موسى متي بشحمه ولحمه.. يأتي.. ويصافحني بود.. ويقول.. أنحنا عارفين الحاصل وعارفين ظروف البوليس.. عربية ما عندكم.. علشان كده.. جيناكم برانا في عربية النقابة.. معانا غياراتنا.. وبطاطينا.. وأدويتنا... يلا قوم اتوكل على الله.. وابدأ.. تحرياتك!!
وبدأت الإجراءات... مع موسى مُتَيْ وكنت أستجوبه في مكتب صغير.. فقال لي.. شايف المكتب ده.. سنة كام وخمسين كان حراسة.. وكنت معتقلاً فيه.. يعني إحنا يوم في الحراسة.. ويوم في الرئاسة فما تخسرنا.. وتعمل قضيتنا معاك شخصية... إتحرى معانا زي ما عاوز بس.. عاملنا بالقانون.. ولا تعتدي على حقوقنا.. أو تسيء معاملتنا..!!
طمأنت الرجل.. وأكملت التحقيق معهم على جناح السرعة وتم التحفظ عليهم جميعاً بسجن عطبرة.. لأن المواد المفتوحة ضدهم... لا تتيح الضمانة... فظلوا بالسجن مدة تجاوزت العام.. جعلت منهم أصدقاء لي... وكنت أجد الراحة في وجودي والونسة معهم... وعلى امتداد شهر رمضان الكريم.. كنت أجيء بفطوري.. وأشاركهم الإفطار وأقاسمهم السحور أحياناً... وعندما تقرر سفري إلى الخرطوم منقولاً.. ذهبت لوداعهم... وكان وداعاً حزيناً.. أدمعت فيه العيون.. وغادرت وتركتهم.. يقاسون مرارة الحبس الظالم.. ومع ذلك يرفضون كل المساومات لإطلاق سراحهم.. حتى أن.. الرائد أبو القاسم محمد إبراهيم.. جاءهم وزارهم داخل السجن.. وحاورهم.. حول بعض الشروط لإطلاق سراحهم.. ولكنهم آثروا عليها البقاء في السجن... وهذا بالطبع هو موسى متي.. الذي لا يساوم أبداً.. وهو الذي ظل بالسجن لأكثر من عام.. رافضاً كل المحاولات التي بذلت معه.. لتسليم مفاتيح خزانة النقابة وأختامها.. وأموالها.. باعتبارها أمانة وضعها العمال في رقبته.. ولن يفرط فيها!!
لقد فوجئت.. لما جئت عطبرة معزياً في وفاة أحد أقربائي وكان موظفاً بالسكة الحديد وجاءني وفد.. من نقابة عمال السكة الحديد.. يقدم المساهمة لأسرة المرحوم.. مع الموافقة المكتوبة من مدير عام السكة الحديد.. ببقائهم في المنزل الحكومي.. حتى يتدبروا أمرهم... ثم لم يلبثوا أن وجهوا لي دعوة عشاء... بدارهم... وهناك التقاني كل أصدقاء السجن.. ورحبوا بي.. وأكرموني... وقال لي موسى متي... أها.. أنا ما قلت ليك زمان.. أنحنا يوم في الحراسة.. ويقوم في الرئاسة؟!.



نواصل
ميرغني ابراهيم
ميرغني ابراهيم
المشرف العام

المشرف العام

عدد الرسائل : 4016
العمر : 63
الموقع : السعودية
المهنة : طبيب
الهواية : كرة القدم
تاريخ التسجيل : 04/11/2007

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

كلام ساكت- أيام نميري Empty رد: كلام ساكت- أيام نميري

مُساهمة من طرف ميرغني ابراهيم الجمعة مايو 21, 2010 3:19 pm

14 مفقودة
كلام ساكت
أيـــام النمــيري «15»


لواء «م»/ محيى الدين محمد علي


ربما أني سرحت.. طوال الحلقات الماضية ... في سرد شتى المواقف والمشاهدات ذات الصلة بالأمن ... وتجاهلت .. العديد من الأحداث الجنائية .. التي حدثت خلال أيام النميري تلك .. بالشمالية الكبرى .. ولكني رأيت .. أن أستعرض بعض المواقف المسلية .. منها .. والتي لا يمكن فصلها عن الحالة الأمنية .. والحياة السياسية في تلك الحقبة ..
لقد كانت العلاقات السودانية الليبية المصرية .. في أوجها .. مع بدايات مايو .. حتى أن اسم مصنع اسمنت عطبرة .. تحول إلى ماسبيو .. «مايو - سبتمبر - يوليو) .. وعاش الناس حلم الوحدة الكبرى بين دول الجوار الثلاث .. حتى ضاع الحلم وتبخر برحيل جمال عبد الناصر ... المهم .. أن .. شاباً مصرياً .. استغل هذه الحقبة من الانفتاح والتكامل المصري .. السوداني .. الليبي .. فدخل السودان متسللاً .. وسرح في انحائه .. وارتكب سلسلة .. من (الاستهبالات) والاحتيالات التي تثير الضحك .. وكأنه يستمتع بحركاته ويختبر قدراته في الضحك على الدقون .. وكما يقول المصريون.. هات م الآخر... فان قصة هذا الشاب المصري (الألعبان) بلغتني وأنا.. أباشر عملي بمركز شرطة دنقلا.. عندما جاءني مدير إحدى المدارس الوسطى بمنطقة عبري... وقال.. بأن شاباً ـ مصري الملامح.. جاءه.. زاعماً بأنه سوداني وأن اسمه.. محمد أحمد عبد الواحد... وأنه قد تم تعيينه مدرساً.. للتربية الوطنية بالوزارة في الخرطوم .. وأنه نقل للعمل في هذه المدرسة التي أديرها .. وأن أوراقه وآخر صرفيته .. في طريقها إلينا .. فرحبت به .. وهيأت له مكتباً .. واسكنته مع أحد المعلمين .. وشرع .. في تدريس مادة التربية الوطنية .. بصورة رائعة .. جعل بعض الأساتذة .. يحضرون حصته .. ويستمتعون بها .. ومن ثم انهالت .. على الأستاذ السوداني المصري .. الهدايا والعطايا والهبات .. من الطلاب والمعلمين .. وأهل البلد الطيبين .. وأخذ يستلف .. ويقترض من هذا وذاك مبتدئاً بشخصي أنا مدير المدرسة .. ونزولاً حتى الفراشين ... وظل يماطل في السداد بذريعة أن أوراقه وآخر صرفيته لم تصل .. وقد انقضت حتى الآن بضعة أشهر وما في أي خبر من وزارة التربية والتعليم !!
عاتبت السيد ناظر المدرسة ولمته على غفلته .. وأرسلت معه شرطياً .. لاحضار هذا المدرس المصرداني ... وفي صبيحة اليوم التالي .. جاء به... بكامل ملامحه ولسانه المصري.. ويرتدي جلابية سودانية.. وطاقية حمراء... فحياني.. بتهذيب بالغ.. وأخذ يمثل دوراً درامياً.. يعجز عنه.. أحمد زكي... وقال.. يا بيه.. أنا وحيد أمي وأبوي... جبرتني الظروف للعمل كمدرس.. الوزارة عينتي.. ونقلتني إلى هذه المنطقة النائية.. ولأني وطني مخلص.. نفذت النقل طوالي.. وعلى حسابي كمان.. وأدي آخرتها.. أنا عايش (ستشهر).. بدون ماهية.. لحد ما غرقت في الديون والناس الطيبين.. صابرين عليَّ.. جزاهم الله كل خير.. ولو سمحت يا سعادة البيه.. تساعدني.. أمشي الخرطوم.. لتسوية أموري مع الوزارة.. وأرجع أحصل شغلي في المدرسة.. العيال ما لهمش ذنب!!
أمرت الشرطي بأخذه إلى الحراسة.. وفتح بلاغ ضده.. وقلت له محذراً.. أوعك تكذب.. لأننا أتصلنا بالوزارة.. وقالت بإنها لم تعينك مدرساً.. وأنها لم تدخل مادة التربية الوطنية ضمن مناهجها.. وقبل أن يسحبه الشرطي.. قال.. سيادتك أنا حأقول كل حاجة.. بس لو سمحت.. أنا عاوز كباية (مية) وكباية شاي.. أصلو بعيد عنك.. رأسي عاوز ينفجر بالصداع... ثم حكى.. كلاماً.. كالخيال.. وقال.. يا عمي أنا مصري من القاهرة.. وخريج كلية الزراعة زهجت من (الصرمحة) في مصر.. قلت أجي السودان وأجرب حظي.. واستطعت أن اتسلل من حلايب لبورتسودان.. وعشت فيها كويس أوي.. قام واحد عسكري قصدني وراح قابضني.. باعتبار اني مصري وما عنديش أوراق ثبوتية.. وقابلت السيد القاضي وقلت له.. يا بيه أنا سوداني وأبوي شغال في السكة الحديد.. بوادي حلفا.. ولهجتي مصرية بسبب التكامل.. بين بلدنا.. وبين مصر.. فأمر القاضي بارسال برقية.. لناظر محطة السكة الحديد بحلفا ان كان من بين مستخدميها.. أحمد عبد الواحد وكانت الاجابة.. مفاجئة لي قبل القاضي تصدق يا بيه.. قالوا نعم.. ونقل إلى بابنوسة.. وعلى ذلك أمر القاضي بشطب البلاغ واطلاق سراحي.. فتقدمت للسيد القاضي برجاء لاعطائي مكتوباً بهذا المعنى.. حتى لا اتعرض للقبض والتلتلة مرة أخرى.. ووافق القاضي مشكوراً وسلموني الخطاب.. واخذت اترحل من بلد.. لبلد.. أجرب حظي.. ولما طاب لي المقام.. في كسلا الجميلة.. قبضتني الشرطة مرة ثانية.. بتهمة أني أجنبي بدون أوراق ثبوتية.. وعندما قدموني للمحاكمة.. أبرزت خطاب قاضي بورتسودان فشطب البلاغ.. ومنحت خطاباً آخر يؤكد سودانيتي.. وبراءتي... فسافرت إلى مدني.. ومدن كثيرة.. وجئت إلى الخرطوم.. ومنها إلى عطبرة.. وهناك علمت.. أن هناك منزلاً شاغراً من بيوت السكة الحديد.. مخصصاً لأحد المهندسين.. والذي يتوقع حضوره بعد شهر.. ولما كنت في غاية (الفلس).. توجهت إلى ذلك المنزل.. وقابلت الخفير المسؤول.. وأوضحت له.. بأني شقيق المهندس (فلان).. عاوز أرتب البيت لحين حضوره.. فرحب بي الخفير وفتح لي البيت كله.. وكان بيتاً مريحاً فأقمت فيه عدة أيام.. وكانت الوجبات (على سنجة عشرة) تأتيني من الجيران وذات يوم سمعت طرقاً على الباب.. وظننت ان الجيران قد بعثوا بوجبة الفطور.. فخرجت لأفاجأ.. برجلين من رجال الشرطة يسألاني إن كنت أنا شقيق المهندس (فلان) فقلت لهم... المطلوب.. نايم جوة.. أروح أناديه حالاً.. ودخلت وخرجت من الباب الخلفي وغادرت عطبرة في نفس اليوم بقطار كريمة.. ومن هناك قررت ان أعود إلى مصر عن طريق وادي حلفا.. فداعبته قائلاً.. وكنت حتعمل أيه.. لو قابلك أبوك.. أحمد عبد الواحد؟!.. فضحك.. وقال لي.. يا عم أنا أبوي مات وشبع موت.. وأبوي الثاني نقلوه بابنوسة!!.
المهم يا سعادة البيه.. وصلت عبري.. و(ما حيلتيش) حاجة أروح بيها مصر.. ففكرت في العمل كمدرس تربية وطنية.. أحوش من وراها قرشين حلوين وأرجع مصر بس حضرة الناظر.. ما صبرش عليَّ وبوظ كل حاجة.. الله يسامحه بأه..!
ظل هذا المتهم المصري في انتظار المحاكمة شهوراً.. ولم نجد في مدينة دنقلا كلها من يتحمل ضمانته المصدقة.. حتى ظهر أمامي.. مزارع كبير من مزارعي حوض السليم.. وقام بضمانته.. وكنت أحس بأن الرجل فعل ذلك.. (عشماً) في الاستفادة من خبرات المهندس الزراعي المتهم.. في استصلاح أراضيه الزراعية الوافرة.. وخرج المضمون من الحراسة.. وهو يتأبط ذراع ضامنه.. وذهب ليقيم معه في منزله... وبعد مضي ثلاثة أسابيع جاءني الضامن.. يصرخ.. الحقني يا جنابو المصري.. شرد.. طلع قبال أسبوع وما رجع فقمنا بعمل نشرة جنائية فتمكنت الشرطة من اعتقاله على مشارف الحدود المصرية.. وأعادته إلى دنقلا.. وجاء المزارع الضامن.. وهو يصر على استمرار الضمانة.. فرفضت ذلك لقناعتي.. بأنه ينوي الانتقام.. وسألته عن الكيفية التي هرب بها المضمون فقال وهو يضحك.. ده ما بني آدم.. ده جن مصرم.. تصور الزول ده قعد معانا في أمانة الله.. وكان في كل صباح يذهب.. إلى الحواشات.. ويعود.. بعينات من التربة في (زجاجات المربة) الفارغة.. ويكتب على كل زجاجة أرقام.. لا أعرفها حتى صار عدد العينات خمسين عينة.. ثم أخذني ذات يوم بعيداً عن المنزل وأخرج من جيبه خارطة بخط اليد.. وقال لي.. دي الخارطة البتودي لمحل الكنز.. انا عندي جهاز لفحص التربة.. تمنه.. مليون دولار.. وهو جهاز عجيب.. لو أدخلت (الترابة في خشمه) على طول يوريك المحاصيل التي يمكن أن تنتجها من هذه العينة من التربة.. وان هذا الجهاز.. أنا دفنته في الخلاء.. شرق مدينة عبري.. وعلشان نبدأ العمل ونحصل الشتوي باذن الله.... قوم رجعني الحراسة وخد الخريطة وياك.. وروح هات الجهاز وأعمل حسابك ما حدش يشوفك!!
أحسست ان الرجل صادق.. وطلبت منه ان يذهب لوحده ويأتي به... وسأكون في انتظاره. وبعد تمنع.. سافر المهندس الزراعي إلى عبري وقال.. كلها يومين وأكون عندك.. ولكنه واصل.. وكاد أن يدخل مصر... وعليّ الطلاق يا جنابو.. أنا كنت ناوي أرميه البحر.. علشان يمشي مصر عديل.. لكين إنت عرفتها.. غايتو ربنا ستر!!
وفي ذات الانفتاح والتكامل المصري الليبي السوداني.. حدث في مدينة جنوب عطبرة.. أن أقض مضاجع أهلها.. مجرم يسطو ليلاً على المنازل ويسرقها.. وجأر الناس بالشكوى وتوالت جرائم السطو والكسر المنزلي المتشابهة والمتهم مجهول .. وبذلت الشرطة كل الجهد الممكن .. دون جدوى .. حتى قادت المتهم رجلاه الآثمتان .. فتسور منزل امرأة دلالية موفورة العافية .. تقيم وحدها .. وأراد أن يسرق مقتنياتها الثمينة من غوائش وحلي ذهبية .. ولكنها أحست به .. وهاجمته وأمسكت به بكل قوتها .. وهي تصرخ .. فضربها بفأس حتى شج رأسها شجاً بليغاً فانهارت وسقطت .. وهرب اللص المجرم ولكنه ترك عمامته في يديها .. كأغلى بينة ضده ... ولما كانت الشرطة .. لا تملك .. دليلاً آخر يمكن الوصول به إلى المتهم المجهول .. فقد قامت بجمع كل عناصر المدينة من المتعطلين والمتبطلين وأصحاب السوابق .. ومرتادي مجالس الخمر والمخدرات .. وكل المشبوهين .. وأوقفتهم في صف طويل أمام باحة مركز الشرطة .. ثم جئ بالشاهد .. المخلوق العجيب الخطير .. الذي وصل من الخرطوم في عربة مكيفة .. ونزل منها وهو يلهث .. ومعه مدربه .. لقد كان هذا الشاهد الخطير .. كلباً بوليسياً .. جاء لتوه من ألمانيا ... عرضت عليه عمامة اللص المجهول .. فشمها .. و(كرف) رائحة الصناح الفائح منها .. فلم يتمالك نفسه وظل يتقافز .. ورفض كليةً .. أن يتجه صوب (المرصوصين) من المشبوهين .. واستطاع أن ينتزع حبله من مدربه .. ويجري في اتجاه مغاير .. والناس يجرون من خلفه ... ولما تبين .. أنه يتجه إلى عنبر رجال الشرطة (العزابة) .. صعق الجميع .. وخارت قوى .. رئيس القسم ... ودخل الشاهد الألماني العنبر .. وعندما وصله الناس كان قد أخرج من العنبر .. رجلاً أسود .. عارياً تماماً بعد أن مزق الكلب ملابسه .. وهدأ بعد ذلك ليسلم قياده لمدربه !!
لقد كان هذا الرجل الأسود هو المتهم الحقيقي الذي ارتكب كل هذه الجرائم ... بعد أن ضبطت كل المسروقات في غرفته التي كان ينام فيها .. وضبط الفأس الذي شج به رأس الدلالية ملوثاً بالدماء ... وباستجواب رجال الشرطة من ساكني هذا العنبر أوضحوا بأن الرجل من ليبيا .. جاءهم يبحث عن عمل ... فوفروا له السكن والمأكل والمشرب .. مقابل كنس ونظافة العنبر ونقل الماء .. إلى الازيار .. ووعدوه بايجاد عمل مناسب له .. سيما والرجل على خلق يحافظ على صلواته!!
نأسف .. للحادثتين تعبيراً عن عهد التكامل السوداني المصري الليبي .. أيام النميري ... ولا نستبعد .. أن مصرياً .. فعل شيئاً مماثلاً في ليبيا .. أو أن ليبياً فعل مثل ذلك في مصر .. أو أن سودانياً .. استباح مصر .. وليبيا .. جريمة واحتيالاً .. وتكاملاً .. وآل تكامل .. آل ..!!
ميرغني ابراهيم
ميرغني ابراهيم
المشرف العام

المشرف العام

عدد الرسائل : 4016
العمر : 63
الموقع : السعودية
المهنة : طبيب
الهواية : كرة القدم
تاريخ التسجيل : 04/11/2007

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى