ورم جميل

أحس بأن الدنيا تدور من حوله ...أهذا هو الحائط الذي كان يجلس قبالته قبل لحظات ويراه نظيفا أملسا ..
هل هذا الشخص الذي يجلس أمامه ..بإبتسامته البلهاء التي لا تعني شيئا هو نفسه الطبيب الذي كان يراها حليقا أنيقا قبل أن يطرق علي أم رأسه دون أكتراث باد: سرطان باللثة .....
سرطان مرة واحدة!!! هكذا تساءل دون صوت.
:لا..لا.. الزول دا بيهظر ... في زول بيقولوا ليهو سرطان حاف كده من غير أي مقدمات!!!
حدث نفسه ثانية ... ثم حاول البحث عن لعاب ليبلع ريقه بصوت مسموع .. ثم سأل الطبيب مرة أخرى:
قلت لي شنو يا دكتور؟؟
تمنى أن يصاب بالصمم أو أن يصاب الطبيب بالبكم فجأة أو يصاب بالسكتة القلبية ولا يستطيع إكمال الجملة ثانية... ولكن هاهي قد أتت.. نفس الكلمتين واضحتين لا مراء في ذلك...
لا يذكر جيدا تفاصيل ما حدث في ذلك اليوم .. بدأ من خروجه من عند الطبيب ..حتى وصوله إلي المنزل
لم يدر ماذا قال له الطبيب بعدها وهو يحدثه عن العلاج الكيماوي وعن العلاج بالإشعاع ... وأن الأعمار بيد الله ..وهو غارق في العرق والمخاوف التي صارت حقيقة ....
: أنا الجابني للزول الفقر دا شنو ؟؟ والله من يافطتو البرة التقول كاتبها براهو قلبي أباهو !!.. زمالة وزفت وكلام فارغ .. ويجي يقول لي أنا عندي سرطان !!
وهو دا دكتور شنو ؟ البيقول ليك تاخ تراخ كده سرطان ... مافي ورم حميد ؟؟ مافي إلتهابات ؟ الله يقلعك ويقلع يومك عامل وشيك كده زي البومة ...الله ينعلك وينعل اليوم القريت فيهو طب زاتو؟؟؟ وهو الطب دا هامل بيقراهو أي زول؟؟ عامل حنيكك المكوجن دا التقول ساويهو براك!!!
جاك الموت يا ملك الموت .. كنت تتحدث عن السرطان والأمراض الخبيثة كشئ لايعنيك , فهي للآخرين .. تماما كحوادث الحركة نظن أنها دائما للآخرين ولا شأن لنا بها ...ترى ماذا أنجزت فيما مضى؟
وهو المضى دا زاتو قدر شنو.. كم وعشرين سنة عديناها كلها مساككة في القراية ولما خلصت القراية بقينا في سك الوظيفة التي لا تغني ولا تسمن من جوع...
وهوبالله لو قول عشنا تاني مية سنة الفايدة شنو .. نفس الغم والهم ... لكن سرطان دي كتيرة شوية!!

لا يدري كيف وصل إلي غرفته النائية ببيت العزاب .. بل لا يذكر من إلتقى في الطريق المعتاد والوجوه التي يمر عليها يوميا..إستلقى على الفراش وذهبت يده تلقائيا للريموت كنترول .. بحث بين القنوات حتى توقف أمام المذيعةالشامية وقميصها النصف عاري .. كان يتابع قبلا برامجها بكل شغف .. لا بل كان يتابعها هي ويتمنى ألا تبتعد عنها الكاميرا قيد أنملة ...أما اليوم :
شوف الهيافة دي ! ماعندك أي موضوع .. سماحة جمل الطين! بالله دي لبسة تلبسها بت ناس ؟
هو السرطان دا أعمى ما يشوف نوعكم دا .. الحلبية بت الكلب.

أطفأ التلفاز وأعتدل في الفراش مادا يده للكيس.. ولكن قبل أن يقوم بتجهيز السفة نظر مليا إليه ثم رمى به بعيد:
بالله في زول عاقل بيخت ليهو وسخ زي دا في خشمو... لا ريحة سمحة لا طعم لا شكل ... هبالة مننا ساكت .. والواحد يقول ليك خرمان !! خرمان شنو؟ ياهو للزفت دا!!
لا يدري كم مضى عليه من الوقت وهو يرى الأشياء ليست هي الأشياء حتى راح في سبات غير عميق... قبل أن يفتح عينيه جيدا إمتدت يده للكيس ثانية ولكن ما لبث أن هب كالملدوغ وتذكر على الفور تفاصيل الصباح...
قضى أياما بين العمل والبيت متذمرا من كل شيئ بدأ من رئيسه في العمل وإنتهاء بصاحب الدكان أمام المنزل .. الذي تعارك معه أكثر من مرة خلال الفترة الفائته :
بالله عليك الله يا موسى فولك دا فول .. تقول صانعه براك !! وصحونك المطرقعة دي والله إلا تأكل فيها بهائم ..
: الصحون دي ما كنت بتلحس فيها السنين دي كلها يا دوب بقت بتاعة بهائم ... الله يرضى عليك زهجتك بتاعة اليومين دي بالله فكها بعيد مننا ...
وهكذا كل يوم موضوع ... وعراك وسباب مع الكل ... حتى نُهي " حبة عيني" الخطيبة التي كان يحدثها بالساعات الطوال .. صار يمل حديثها ويجده فارغا وممجوجا ...لا لون له ولا طعم ولا رائحة.
: والله النسوان ديل أهيف خلق الله .. ذلك بعد أن يضع التلفون جانبا.
هل يمكن أن تحب شخصا ولا تريد التواجد معه طول الوقت ؟
وهل الحب يعني أن تريد التواجد معه طول الوقت؟ أشك في ذلك!!!

لا يدري كيف مرت أيامه في إنتظار موعده مع الطبيب لتحديد كيفية العلاج .. بتداخل جراحي أو غيره ... دخل إلي العيادة وهو يجرجر رجليه واحدة خلف الأخري .. جلس على الكرسي وهوفي إنتظار دوره وعيناه تجوبان المكان بحثا عن التعاسة في شق الحائط الرفيع بجوار الباب .بالله دي عيادة دي ولا زيادة مرض..
وفي وجه الرجل الجالس قبالته ولحيته المشذبة :الله يمرضكم إنتو .. قبل ما تجو والله السرطان دا إلا نسمع بيهو سمع !!
ثم إلي لون يد كاتبة العيادة الذي لايمت إلى لون وجهها بصِلة: الله ينعلكن إنتن .. بقيتن زي التعاريف دي ما تفرزها من دي ....
كل الأشياء أمامه تعيسه حتى تفاصيل صغيرة كانت تمر عليه مرور الكرام بات الآن يتوقف عندها ويعتصر ما فيها من تعاسه حتى الثمالة.
: إنت محمد عمر عبد الله؟ نبهه صوت الكاتبة من تأملاتها السوداء .. أومأ برأسه إيجابا...
دورك يا محمد
إبتدره الطبيب قائلا بعد التحية : إنت محمد عبد الله عمر ..
: نعم !! ومحدثا نفسه " ما فرقت كثير عبد الله عمر ولا عمر عبد الله أهه داير تجيب لينا شنو زيادة آ الفالح"
: قلت لي عمرك ثمانية وعشرين سنة صاح؟
إكتفى هذه المرة بهز رأسه أي نعم .
: يا أخ محمد نحن والله ما عارفين نقول ليك شنو ... لكن من غير ما نخش في تفاصيل إتضح إنو البنت بتاعة المعمل إرتكبت خطأ لا يغتفر ...ولخبطت العينة الشلناها منك مع عيان تاني ...
تحدث الطبيب طويلا عن أن مثل هذه الأخطاء نادرة الحدوث لما يترتب عليه من نتائج مثل معاناتك في الايام الفائته .. ولذلك هم بصدد التحقيق معها وسيتم عقابها قطعا ....
ظل الطبيب يتحدث وهولا يسمع شيئا مما يقول .. حتى إنتبه لكلماته الأخيرة
: يبدو أنك تعاني من إلتهاب مزمن أدى لتكوين هذا الورم ... ونحن للتأكيد حنأخد عينة تاني منك ونرسلها للمعمل المركزي ...
لم ينتظر أكثر من ذلك بل هب واقفا : ولا نتأكد ولا تتأكد ... أنا خلاص ورَمٍي دا ما عايز ليهو علاج ...
شد على يد الطبيب وهو يشكره على الاخبار السارة ونسي تماما معاناة الاسابيع الفائتة .. وأن الطبيب وعيادته كانوا سببا فيها !
إنسل من الباب خارجا ...وهو يبتسم إبتسامة واسعة للرجل ذي اللحية والبنت متعددة الألوان.....
خارج العيادة شاهد شابا صغيرا أكمل ترتيب سفته ويهم بإدخال الكيس إلي جيبه ...
أسرع في خطوه وهو يدنو منه قائلا: بالله لوسمحت
أمسك بالكيس .. شمه أولا ثم نظر إلي الكتابة عليه " التوم للعماري"...ألقم فاهه واحدة ...ثم وهو يبصق بعيدا بينما يحرك لسانه جيئة وذهابا لإستطعامها ...
: تعرف يا ولدنا التوم دا صعوطو مش خالص ... أقع البكري الجنب المجلس ... و
وقبل أن يستطرد رن تلفونه المحمول ...
: أهلا يا هنوية ... ياأخي شوق بحر عديل كده.