مواضيع مماثلة
المواضيع الأخيرة
القشطيني يودع صديقه الطيب صالح
2 مشترك
أصحاب جد كوم :: المنتديات العامة :: الثقافة :: أخري
صفحة 1 من اصل 1
القشطيني يودع صديقه الطيب صالح
هل للغياب طعم ...؟هل للفقدان رائحة... ؟ أسأل النفس لأشاغلها وأنا أقف على باب الطيب صالح ،لأول مرة أدخل بيته في غيابه وهذه المرة سيطول الغياب نعرف ذلك دون أن تنبأنا العرافات فالغياب كالفقدان كالرحيل يترك خلفه دمعة أسى ووعد بلقاء ،الغياب ليس بعدا والرحيل ليس هجرة وعلى وفرة ما تنادمناه من أشعار تهرب كل القصائد من الذاكرة ويخلو ديسكها الممسوح الا من بيت واحد قاله أعرابي مجهول متخيلا لحظة دفنه .
يقولون لاتبعد وهم يدفنوني
الا كل من تحت التراب بعيد
على باب الطيب صالح أقف ،لون الباب الخارجي تغير ،الأزرق أصبح بنيا ،ولا عويل نساء يسافر في الريح دون تأشيرات ليشهد أمام الصحراء العربية بأن فقيدهن لن تلد النساء مثله ، الباكيات والباكية الأولى والأخرى التي تهيج البواكيا لسن هنا انهن ينتظر ن في أم درمان التي سيصلها اليوم محمولا على أكف المحبة لينام قرير العين الى الأبد في مملكة مولانا البكري ،فقد جاء الوقت ليسعد بصحبة من دوما أحبهم من أولياء الله الصالحين .
على باب جاري الصالح أقف ولا أعترف حتى للهدهد - لنفسي بأني لن اراه مرة أخرى يفتح الباب ،فلطالما مازحناه محمد بن عيسى وأنا بأنه من أصحاب الكرامات وهؤلاء قادرون على الاتيان بالعجائب واختراق الحجب لكن ليس عندهم القدرة في هذه اللحظة على محو الندم الذي احسه عميقا على رحلة روحانية فاتتني معهما لصاحب كرامات في شمال افريقيا فقد خططنا ذات يوم من أصيلة التي تحبنا ونحبها للذهاب الى سيدي عبد السلام بن مشيش شمال المغرب وفي اللحظة الأخيرة اضطررت للاسراع في العودة الى لندن لامر طرأ وتركتهما يذهبان معا ليحكيا لاحقا عما فاتني في ذاك المكان الذي تمد منه يدك لتداعب غيمة أو تمسك نجمة
على باب الطيب صالح أقف وفجأة بتكثف عمر من المحبة في ملف مضغوط عمره لحظة برق رحيم ،أذكر كيف قابلته لأول مرة في القطار وكنت حديث عهد بالقدوم الى لندن ومن كلمة تتبع أختها بتلقائية نيل يهاجر في كل الاتجاهات أعلم أنه جاري في (رينزبارك) جنوب لندن وقبل أن اقول يا للقدر السعيد يبادرني ذاك الذي كان حضوره قافلة من الحميمية المقطرة : أتعرف أيضا من جارنا هنا ؟ ودون أن تخرج اللا التي استبدلتها بهزة رأس للأعلى يتابع : أنه ناجي العلي .واليوم فقط أسأل نفسي ما الفرق بين أن ترحل حين يحين موعد قطارك وبين أن يأتي من يجبرك على الرحيل مبكرا على متن رصاصة أو خنجر ، لماذا يستعجل بعضنا بعضا طالما أن لكل منا في لوحه المحفوظ في محرك البحث الاكبر موعده وقطاره .
على باب جاري أقف ويومها في أحاديث القطارات - وما اكثرها من واترلولرينزبارك - لم نقحم امرأ القيس في حديثنا فمع الطيب صالح يحضر دوما ابو الطيب المتنبي ولم يكن في لندن من يحفظ قصائده مثله ومثل عبدالله الناصر لكن أباالطيب يغيب اليوم مع الطيب ويأتي امرؤ القيس من ذات الدار وقد عرف مكانه فتدللا وأطل براسه مختالا كقطعة جيكسو أخيرة لابد منها لتكتمل اللوحة ،بلى أنه يأتي مسلحا بكل طاقته على تكثيف الفقدان الطيب وهل يملك الانسان الا أن يكون طيبا حين يغترب أو يموت :
يا جارتا انا غريبان هاهنا
وكل غريب للغريب نسيب
على باب صديق عمر أقف كأني على ضفة نهرذكريات كلها عذبة بصحبة ذاك العذب النقي الصافي الذي عرفته بود واحترام قبل أن اراه فلما رأيته وتعرفت اليه اكثر في السفر والاقامة ازددت له حبا ،فقد كان في لندن الباردة عنصر دفء لنا جميعا صعاليكها ورسمييها وكان في جلسات سمرنا الاسطوانة الاثيرة التي لا نريدها أن تتوقف فالطيب في سمره مع اخوانه وخلانه كجلساته مع قلمه نهر عميق يروي الضفتبين وتظل عينه على افق بعيد هل تراه أدرك البارحة ذاك الأفق ؟ .
لماذا يقفز هذا الشريط المضغوط الى شاشة العمر وأنا امام باب لن يفتحه الطيب بعد الآن أبدا ، أنه يدور من تلقاء نفسه ويقف كما يليق بصديق عمر أليف عند المزهر والبهي والمثمر وما أكثر ه بين ذكريات فتية دان الزمان لهم ودانت الثقافة ومعها نبل المقصد واللغة ففي لندن وخصوصا عند غازي القصيبي حين كان سفيرا لمملكة الرب فيها كنا نجتمع بصفة تكاد تكون دورية علامتها قدوم يوسف الشيراوي الى عاصمة الضباب وهناك ومع غازي ويوسف وعثمان العمير وبلند الحيدري والحقيل والقشطيني ونجدة صفوت وثلة من أصفياء الفكر المتسامح الأصيل كان للحوار طعم آخر وللافكار أجنحة .
على باب مصطفى سعيد أقف جوليا تفتح الباب وقد أحمرت عيناها الخضراوان من دموع اليوم التي تزاحم دمع البارحة وعلى باب المطبخ البسيط تقف سميرة بنت الطيب الصغرى فأسأل عن زينب أختها الكبرى لأعلم أنها في الطريق ومعها عمهما البشير الذي يقطر طيب كأخيه ،وفي لحظة يجهش معنا فيها كل من في الكون لفقدان تلك الموجة الهادئة من المحبة تخبرني زوجة صديقي الطيب أنه أغمض عينيه بهدوء وهاجر كما عاش بسلام وفي حضور طيف الأسطورة الكونية كان لا بد أن تقولها بالانجليزية (بيسفولي )
على الأرض السلام اذن وفي السماء المحبة يا جوليا الحزينة فصديقنا الطيب الصالح الذكي اللماح الودود المحب الأصيل المهاجر الذي هاجر في كل الاتجاهات ولم يهاجرأم درمان ومروى سيغادر هيثرو اليوم للمرة الأخيرة بجواز سفره السوداني الذي لم يستبدله أبدا فقد كان يعلم أنه عائد الى أم درمان ولن ينتظر مع بقية غرباء لندن - كناجي العلي وبلند الحيدري - من يقر له بحق العودة .
بنوته- صاحب واعد
- عدد الرسائل : 49
تاريخ التسجيل : 07/10/2010
رد: القشطيني يودع صديقه الطيب صالح
الطيب صالح الذي أعرفه
طلحة جبريل
كنت احتاج الى الكثير من الوقت ، حتى تتوارى صورة بقيت في ذاكرتي منذ ذلك الصباح في فبراير(شباط) الماضي. صورة رجل ملفوف بعلم وطنه يصلي عليه الناس في الصباح الباكر في مدينة امدرمان السودانية. كانت رحلة زاخرة تلك التي بدأت في نهار قائظ من صيف بعيد في قرية صغيرة عند منحنى النيل في شمال السودان، وانتهت ذات صباح في "مقابر البكري" في امدرمان. رحلة كاتب عظيم وشخص نبيل جعلنا جميعاً نحن أهل السودان نقول بفخر واعتزاز " نحن من بلد الطيب صالح". هل سمعتم بشعب ينسب نفسه الى كاتب وروائي.
في هذه اللحظة تتزاحم الصور في ذهني ، صور سنوات تراكمت تجر بعضها بعضاً، وفي كل مكان أو زمان هناك حكاية أو بعض حكايات.
أقول صادقاً مازلت غير قادر على أن أضع فاصلاً بين ما حدث في حوالي التاسعة من ليل الثلاثاء 17 فبراير في احدى غرف مستشفى برمبتون في لندن، وبين الصور التي راحت تغطي بعضها بعضاً في مخيلتي على مدار الدقيقة إن لم أقل الثانية،غطت الصور على الصور ولم يبق لي سوى اجترار الأسى والحزن.
وخلال الفترة الفاصلة بين كتابة هذه الورقة وما حدث في إحدى غرف مستشفى برمبتون تعرضت لمعاناة شخصية غير مسبوقة. إذ كان علي أن أتحدث لوسائل اعلام عديدة، وفي كل مرة أجد أن دمعة تقفز الى المآقي اتمنى أن آغلبها لكنها سرعان ما تغلبني.
الناس يتحدثون عن "الطيب صالح" الرمز والكاتب والأديب والمبدع والمفكر وعبقري الرواية وصاحب واحد من بين أهم مائة عمل في تاريخ الانسانية، والمواطن الذي رفع اسم وطنه عالياً، والسياسي الذي كان ضد الأنظمة الشمولية، لكنني كنت اتحدث عن الطيب صالح الصديق العزيز، الرجل الذي ظل يعطف علي عطفاً خاصاً، الرجل الذي كانت تهمه جميع تفاصيل حياتي، وكانت آخر وصاياه" لا تبقى في اميركا طويلاً عليك أن تعود ، لا تكرر تجارب الآخرين".
عندما سمعت الخبر للوهلة الاولى صعقت، وكان بفارق التوقيت بين واشنطن ولندن حالة غروب في العاصمة الاميركية وليل في بريطانيا. قال الصوت من الضفة الاخرى من الاطلسي بنبرات متهدجة ومتعبة " ...توفي قبل قليل". أصبت بالوجوم. لم انطق ولو بكلمة واحدة. بقيت ساهماً لفترة طويلة، غامت عيناي بدموع غلبتني. غرقت في حزن تدافعت امواجه واحدة تلو الاخرى. ثم تحولت تداعياته في كل ساعة بل كل دقيقة إلى سيل متدافع متسارع من الاحزان تتزايد حركتها وتتعالى منذرة بليالي عامرة بالأرق.
لا أدري لماذا قفز من بين كل المشاهد مشهد محدد.
ذلك النهار اتصل بي الطيب صالح في لندن، قال سننتظرك انا ومحمد الحسن أحمد ، التحق بنا لنذهب جميعاً الى السفير السابق سيداحمد الحردلو الذي كان طريح الفراش ، بقينا فترة مع الحردلو في المستشفى، ثم خرجنا نتمشى الطيب ومحمد الحسن وانا ، في ذلك اليوم راح يزودني بنصائح كثيرة ،إذ كنت استعد بعد يومين للسفر الى واشنطن لموقع عمل جديد، وحين لاحظت ان تلك النصائح استثنائية وملفتة وبلا حصر قلت له " يا شيخ الطيب (وكنت هكذا اخاطبه) كأننا لن نلتقي بعد اليوم" رد قائلاً بضحكته المميزة ونبرات صوته العميقة وأسلوبه المتمهل في الحديث " يا شقي الحال (وهكذا اعتاد مخاطبتي) العمر لم تعد فيه بقية" وفي إشارة ملفتة عبر عن رغبة غامضة أن يجد له قبراً في بلد شاسع واسع. لم يكن الطيب يملك متراً مربعاً في البلد الذي اعتاد ان يطلق عليه " الوطن الحبيب اللعين" عاد الي هذا الوطن داخل نعش وهو لا يملك سوى جواز سفره.
ذهبت الى ذلك الكلام أستعيده واحاول استرجاع ما قاله. وكانت تلك آخر مرة التقي فيها الطيب صالح وجهاً لوجه. أعتدت بعد ذلك ان اتحدث معه هاتفياً، لكن كان مرضه يشتد لذلك اقتصرت مكالماتنا في ايامه الاخيرة على التحية والسلام، كنت افضل الاتصال بزوجته "جولي" لاعرف تفاصيل حالته الصحية ، أو بالصديق محمود عثمان صالح الذي ظل الى جانب الطيب صالح ورافقه في السنوات الاخيرة حتى خلال زياراته خارج بريطانيا. اتسم موقف محمود، بالمروءة والشهامة، بقى الى جانب الطيب حتى فاضت روحه ورافق جثمانه الى الوطن. قال لي الطيب في آخر مكالمة هاتفية "هل انت بخير" صمت. وكانت تلك آخر مرة اسمع فيها صوته.
لم يتحدث معي الطيب صالح عن الموت الا مرة واحدة.
عندما أكملت كتابي" على الدرب مع الطيب صالح ..ملامح من سيرة ذاتية" عام 1997، عرضت عليه نسخة الكتاب قبل إرسالها الى صحيفة " الحياة" وكنت وقتها عاطلاً عن العمل. ذهبت اليه في لندن ،ومعي نسخة الكتاب كما كتبتها ،وبعد ثلاثة ايام التقينا، وكان ان قرر حذف مقاطع من الكتاب وفي ظنه انها قد تحرج بعض الناس، ثم قال لي مازحاً " كيف جعلتني اقول كل هذه المصائب" وفاجأني قائلاً "على اية حال هذا هو المخطوط لكن اقترح عليك نشره بعد ان اتوكل على الله وأمضي الى حال سبيلي، وإذا وجد الناس في ما أكتبه وكتبته ما يستحق هذا كاف" كان ردي أن الاعمار بيد الله ولا أعرف من منا سيسبق الآخر. لم يقتنع. لكن عندما قلت له إنني التزمت مع صحيفة " الحياة" وهم سيدفعون مبلغاً معقولاً احتاجه لانني عاطل عن العمل أجاب بحسم " في هذه الحالة لا نقاش".
كنت خلال الفترة الاخيرة اتجنب الحديث عن الطيب صالح حتى لا أقلب المواجع ، وبقى الحال كذلك الى أن جئت يوم افتتاح موسم أصيلة الحالي، المدينة التي أحبها الطيب صالح كثيراً كثيراً وقال وكتب عنها الكثير ، وظل يعتبر الاستاذ محمد بن عيسى من أعز أصدقائه ويحمل له في دواخله مودة وتقديراً استثنائياً.
ولعل من مفارقات هذا الزمان أن يغادر سلام إبن أصيلة والذي كان الطيب صالح يكن له حباً خاصاً ربما لانه يحاكي بهلول عرس الزين ، هذه الدنيا قبل أسابيع من رحيل الطيب صالح. وكان الطيب أوصى محود عثمان صالح أن يتكرم على سلام بمبلغ من المال عندما يزور أصيلة وهو لا يدري أن سلام سبقه الى هناك.
في ليلة افتتاح موسم أصيلة التقيت دنيا زوكروفسكو ، هذه السيدة الرومانية الرائعة التي تحمل وجهاً طفولياً وتضع ابتسامة دائمة وغير متطفلة على وجهها .المترجمة الفورية صديقة الجميع ، والتي قالت لي مرة في حوار منشور "تشرفت بالتعرف على الطيب صالح ، أنا مفتونة به ككاتب وكانسان وأعتقد أن هناك ما يربط بين الصفتين ، لايمكن أن نفصل بين الكاتب والانسان".
التقيت هذه السيدة الفاضلة ، بعد انتهاء الجلسة الافتتاحية ، وتعانقنا طويلاً وبكينا سوياً على الرجل الذي قال "لم أرغب أن أكون كاتباً في يوم من الايام مثل ما لم تكن لدي رغبة في نشر ما كتبته. لم أحب مطلقاً أن يقال أنني كاتب" وقال أيضاً" لدي شعور، وهذه نقطة قد لايستوعبها كثيرون أن الشهرة توبخني لذا لا أحس باية متعة من وراء الشهرة، بعض الناس قد يعتقدون هذا من قبيل التواضع ، لكنه قطعاً ليس كذلك ، أشعر بالتوبيخ الداخلي إذ أني أدرك أن الشهرة جاءتني بسبب تنكري أصلاً لبيئتي ومحاولة إقامة جسور معها من خلال الكتابة".
الآن ماذا أقول؟
كان حظ الطيب صالح موفوراً مع الدنيا والناس، وفي مساره ورحلة عمره التقي كثيرين والتقاه كثيرون، ظل يعتقد دائماً ان جميع الناس، كل الناس، طيبين وخيرين تسهل معاشرتهم. كان يرى محاسن الناس لذلك احبه كل من تعرف عليه عن قرب. كل العالم العربي أحب الطيب صالح لانه بشر من طراز نادر.
كان الطيب صالح من أعز أصدقائي...ورحيل صديق من أكبر الفواجع .
حزيناً دامعاً أقولها.
طلحة جبريل
كنت احتاج الى الكثير من الوقت ، حتى تتوارى صورة بقيت في ذاكرتي منذ ذلك الصباح في فبراير(شباط) الماضي. صورة رجل ملفوف بعلم وطنه يصلي عليه الناس في الصباح الباكر في مدينة امدرمان السودانية. كانت رحلة زاخرة تلك التي بدأت في نهار قائظ من صيف بعيد في قرية صغيرة عند منحنى النيل في شمال السودان، وانتهت ذات صباح في "مقابر البكري" في امدرمان. رحلة كاتب عظيم وشخص نبيل جعلنا جميعاً نحن أهل السودان نقول بفخر واعتزاز " نحن من بلد الطيب صالح". هل سمعتم بشعب ينسب نفسه الى كاتب وروائي.
في هذه اللحظة تتزاحم الصور في ذهني ، صور سنوات تراكمت تجر بعضها بعضاً، وفي كل مكان أو زمان هناك حكاية أو بعض حكايات.
أقول صادقاً مازلت غير قادر على أن أضع فاصلاً بين ما حدث في حوالي التاسعة من ليل الثلاثاء 17 فبراير في احدى غرف مستشفى برمبتون في لندن، وبين الصور التي راحت تغطي بعضها بعضاً في مخيلتي على مدار الدقيقة إن لم أقل الثانية،غطت الصور على الصور ولم يبق لي سوى اجترار الأسى والحزن.
وخلال الفترة الفاصلة بين كتابة هذه الورقة وما حدث في إحدى غرف مستشفى برمبتون تعرضت لمعاناة شخصية غير مسبوقة. إذ كان علي أن أتحدث لوسائل اعلام عديدة، وفي كل مرة أجد أن دمعة تقفز الى المآقي اتمنى أن آغلبها لكنها سرعان ما تغلبني.
الناس يتحدثون عن "الطيب صالح" الرمز والكاتب والأديب والمبدع والمفكر وعبقري الرواية وصاحب واحد من بين أهم مائة عمل في تاريخ الانسانية، والمواطن الذي رفع اسم وطنه عالياً، والسياسي الذي كان ضد الأنظمة الشمولية، لكنني كنت اتحدث عن الطيب صالح الصديق العزيز، الرجل الذي ظل يعطف علي عطفاً خاصاً، الرجل الذي كانت تهمه جميع تفاصيل حياتي، وكانت آخر وصاياه" لا تبقى في اميركا طويلاً عليك أن تعود ، لا تكرر تجارب الآخرين".
عندما سمعت الخبر للوهلة الاولى صعقت، وكان بفارق التوقيت بين واشنطن ولندن حالة غروب في العاصمة الاميركية وليل في بريطانيا. قال الصوت من الضفة الاخرى من الاطلسي بنبرات متهدجة ومتعبة " ...توفي قبل قليل". أصبت بالوجوم. لم انطق ولو بكلمة واحدة. بقيت ساهماً لفترة طويلة، غامت عيناي بدموع غلبتني. غرقت في حزن تدافعت امواجه واحدة تلو الاخرى. ثم تحولت تداعياته في كل ساعة بل كل دقيقة إلى سيل متدافع متسارع من الاحزان تتزايد حركتها وتتعالى منذرة بليالي عامرة بالأرق.
لا أدري لماذا قفز من بين كل المشاهد مشهد محدد.
ذلك النهار اتصل بي الطيب صالح في لندن، قال سننتظرك انا ومحمد الحسن أحمد ، التحق بنا لنذهب جميعاً الى السفير السابق سيداحمد الحردلو الذي كان طريح الفراش ، بقينا فترة مع الحردلو في المستشفى، ثم خرجنا نتمشى الطيب ومحمد الحسن وانا ، في ذلك اليوم راح يزودني بنصائح كثيرة ،إذ كنت استعد بعد يومين للسفر الى واشنطن لموقع عمل جديد، وحين لاحظت ان تلك النصائح استثنائية وملفتة وبلا حصر قلت له " يا شيخ الطيب (وكنت هكذا اخاطبه) كأننا لن نلتقي بعد اليوم" رد قائلاً بضحكته المميزة ونبرات صوته العميقة وأسلوبه المتمهل في الحديث " يا شقي الحال (وهكذا اعتاد مخاطبتي) العمر لم تعد فيه بقية" وفي إشارة ملفتة عبر عن رغبة غامضة أن يجد له قبراً في بلد شاسع واسع. لم يكن الطيب يملك متراً مربعاً في البلد الذي اعتاد ان يطلق عليه " الوطن الحبيب اللعين" عاد الي هذا الوطن داخل نعش وهو لا يملك سوى جواز سفره.
ذهبت الى ذلك الكلام أستعيده واحاول استرجاع ما قاله. وكانت تلك آخر مرة التقي فيها الطيب صالح وجهاً لوجه. أعتدت بعد ذلك ان اتحدث معه هاتفياً، لكن كان مرضه يشتد لذلك اقتصرت مكالماتنا في ايامه الاخيرة على التحية والسلام، كنت افضل الاتصال بزوجته "جولي" لاعرف تفاصيل حالته الصحية ، أو بالصديق محمود عثمان صالح الذي ظل الى جانب الطيب صالح ورافقه في السنوات الاخيرة حتى خلال زياراته خارج بريطانيا. اتسم موقف محمود، بالمروءة والشهامة، بقى الى جانب الطيب حتى فاضت روحه ورافق جثمانه الى الوطن. قال لي الطيب في آخر مكالمة هاتفية "هل انت بخير" صمت. وكانت تلك آخر مرة اسمع فيها صوته.
لم يتحدث معي الطيب صالح عن الموت الا مرة واحدة.
عندما أكملت كتابي" على الدرب مع الطيب صالح ..ملامح من سيرة ذاتية" عام 1997، عرضت عليه نسخة الكتاب قبل إرسالها الى صحيفة " الحياة" وكنت وقتها عاطلاً عن العمل. ذهبت اليه في لندن ،ومعي نسخة الكتاب كما كتبتها ،وبعد ثلاثة ايام التقينا، وكان ان قرر حذف مقاطع من الكتاب وفي ظنه انها قد تحرج بعض الناس، ثم قال لي مازحاً " كيف جعلتني اقول كل هذه المصائب" وفاجأني قائلاً "على اية حال هذا هو المخطوط لكن اقترح عليك نشره بعد ان اتوكل على الله وأمضي الى حال سبيلي، وإذا وجد الناس في ما أكتبه وكتبته ما يستحق هذا كاف" كان ردي أن الاعمار بيد الله ولا أعرف من منا سيسبق الآخر. لم يقتنع. لكن عندما قلت له إنني التزمت مع صحيفة " الحياة" وهم سيدفعون مبلغاً معقولاً احتاجه لانني عاطل عن العمل أجاب بحسم " في هذه الحالة لا نقاش".
كنت خلال الفترة الاخيرة اتجنب الحديث عن الطيب صالح حتى لا أقلب المواجع ، وبقى الحال كذلك الى أن جئت يوم افتتاح موسم أصيلة الحالي، المدينة التي أحبها الطيب صالح كثيراً كثيراً وقال وكتب عنها الكثير ، وظل يعتبر الاستاذ محمد بن عيسى من أعز أصدقائه ويحمل له في دواخله مودة وتقديراً استثنائياً.
ولعل من مفارقات هذا الزمان أن يغادر سلام إبن أصيلة والذي كان الطيب صالح يكن له حباً خاصاً ربما لانه يحاكي بهلول عرس الزين ، هذه الدنيا قبل أسابيع من رحيل الطيب صالح. وكان الطيب أوصى محود عثمان صالح أن يتكرم على سلام بمبلغ من المال عندما يزور أصيلة وهو لا يدري أن سلام سبقه الى هناك.
في ليلة افتتاح موسم أصيلة التقيت دنيا زوكروفسكو ، هذه السيدة الرومانية الرائعة التي تحمل وجهاً طفولياً وتضع ابتسامة دائمة وغير متطفلة على وجهها .المترجمة الفورية صديقة الجميع ، والتي قالت لي مرة في حوار منشور "تشرفت بالتعرف على الطيب صالح ، أنا مفتونة به ككاتب وكانسان وأعتقد أن هناك ما يربط بين الصفتين ، لايمكن أن نفصل بين الكاتب والانسان".
التقيت هذه السيدة الفاضلة ، بعد انتهاء الجلسة الافتتاحية ، وتعانقنا طويلاً وبكينا سوياً على الرجل الذي قال "لم أرغب أن أكون كاتباً في يوم من الايام مثل ما لم تكن لدي رغبة في نشر ما كتبته. لم أحب مطلقاً أن يقال أنني كاتب" وقال أيضاً" لدي شعور، وهذه نقطة قد لايستوعبها كثيرون أن الشهرة توبخني لذا لا أحس باية متعة من وراء الشهرة، بعض الناس قد يعتقدون هذا من قبيل التواضع ، لكنه قطعاً ليس كذلك ، أشعر بالتوبيخ الداخلي إذ أني أدرك أن الشهرة جاءتني بسبب تنكري أصلاً لبيئتي ومحاولة إقامة جسور معها من خلال الكتابة".
الآن ماذا أقول؟
كان حظ الطيب صالح موفوراً مع الدنيا والناس، وفي مساره ورحلة عمره التقي كثيرين والتقاه كثيرون، ظل يعتقد دائماً ان جميع الناس، كل الناس، طيبين وخيرين تسهل معاشرتهم. كان يرى محاسن الناس لذلك احبه كل من تعرف عليه عن قرب. كل العالم العربي أحب الطيب صالح لانه بشر من طراز نادر.
كان الطيب صالح من أعز أصدقائي...ورحيل صديق من أكبر الفواجع .
حزيناً دامعاً أقولها.
ودالجدى- صاحب واعد
- عدد الرسائل : 47
تاريخ التسجيل : 03/12/2007
أصحاب جد كوم :: المنتديات العامة :: الثقافة :: أخري
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الأحد فبراير 01, 2015 9:13 am من طرف عواد عمر
» الفنان رمضان حسن
الأحد مارس 09, 2014 11:33 am من طرف عواد عمر
» مذكرات بيل كلينتون
الخميس أكتوبر 17, 2013 9:42 pm من طرف الميزر
» صور اعجبتني
السبت يونيو 15, 2013 6:10 am من طرف فاطمة
» نكات اسحابي
الإثنين يونيو 03, 2013 1:34 am من طرف محمد الساهر
» أخطر 3 شهادات عن هروب مرسى من السجن
الخميس مايو 30, 2013 10:42 pm من طرف عازة
» من روائع الشاعر جمال بخيت
الخميس مايو 30, 2013 10:18 pm من طرف عازة
» إطلاق نــار على الفريق "سـامي عنان
الخميس مايو 02, 2013 9:00 am من طرف محمد الساهر
» عاجل..أبو تريكة فى العناية المركزة
الخميس مايو 02, 2013 8:33 am من طرف محمد الساهر
» وقفة مع البافاري : مشروع أفضل فريق يقطع الكرات
الخميس مايو 02, 2013 8:21 am من طرف محمد الساهر
» 10 أطعمة تعرضك للإصابة بمرض السرطان
الخميس مايو 02, 2013 5:18 am من طرف محمد الساهر
» أسهل وأحدث 10 طرق لإنقاص وزنك في أقل من 10 دقائق
الخميس مايو 02, 2013 1:39 am من طرف عازة
» القدرات النفسيه
الخميس مايو 02, 2013 1:11 am من طرف محمد الساهر
» تنمية قدرات العقل
الخميس مايو 02, 2013 1:08 am من طرف محمد الساهر
» مصر: تطبيق الحد الأقصى والأدنى للأجور في مايو
الخميس مايو 02, 2013 12:58 am من طرف محمد الساهر
» السجن مدى الحياة لـ"بن على" و10 لوزير داخليته
الخميس مايو 02, 2013 12:38 am من طرف سيدورف
» فتح النار على باسم يوسف لاستضافته مغنيا شاذا
الخميس مايو 02, 2013 12:32 am من طرف سيدورف
» مورينيو والريال.. قصة موت معلن؟
الخميس مايو 02, 2013 12:16 am من طرف سيدورف
» رئيس برشلونة يعترف بتفوق بايرن.. وفخور بلاعبيه
الخميس مايو 02, 2013 12:12 am من طرف سيدورف
» فساتين الزفاف
الثلاثاء أبريل 30, 2013 3:22 am من طرف عازة